ثامر عباس
الأصل في هذه الموضوعة السياسية المحورية هي؛ أن (الدولة) تعتبر المسؤول الأول والمباشر عن استنبات، وإنضاج عناصر الوعي الاجتماعي بقضية (المواطنة) قبل أن تتصدى أية مؤسسة أخرى من مؤسسات المجتمع السياسي، والمجتمع المدني للقيام بهذه المهمة الحضارية والإنسانية، من حيث أن هذه المسألة تتعلق بتربية الإنسان وتوعيته على تغليب انتمائه الجمعي، وولائه الوطني ورابطه الثقافي، على انتماءاته التحتية وولاءاته الهامشية وانحداراته الفرعية.
وأما في حال غياب الدولة وتعطل أجهزتها وخراب مؤسساتها وتخليها عن دورها، فمن الواجب على بقايا (المجتمع المدني) الإسراع في لملمت شعث شتاته، واستنفار كل ما بحوزته من طاقات بشرية وإمكانيات مادية ومحفزات معنوية للنهوض بهذه المهمة الصعبة والخطيرة. وإلا فإن كيان المجتمع المعني سيصار إلى التصدع القيمي/ الأخلاقي، والتفكك الاجتماعي/ الجماعاتي، والتمزق النفسي/ الشعوري، والتناحر الديني/ الطائفي، كما هو الحال بالنسبة للمجتمع العراق الذي سرعان ما انفرط عقده السوسيولوجي وتبعثر نسيجه الانثروبولوجي أثر أحداث السقوط المشؤومة. ولعل هناك من يعترض على صيغة عنوان المقال التي يستشف منها؛ أن شعور (المواطنة) لدى الإنسان العراقي يمر في حالة من (الانكفاء) و(التراجع)، بعد أن كان يظن أنه مغمور بذلك الشعور لحد التخمة على مدى العقود، التي أعقبت تأسيس الدولة العراقية عام 1921 م على الأقل!. والحجة على ذلك، انه وان كانت مؤسسة الدولة تتأرجح بين طور مركزية خانقة وبين طور انحلال فوضوي، على خلفية استمرار توتر علاقاتها مع دول جوارها الإقليمي من جهة ومحيطها الدولي من جهة أخرى، إلا أن شعور الفرد العراقي بـ (مواطنيته) لم يلبث راسخا في وعيه وقارا في سيكولوجيته، بحيث إن أية أزمة يتعرض لها كيانه الوطني سرعان ما ينتفض ذلك الشعور بالتأجج والعنفوان!.
والحقيقة التي ينبغي علينا تقبلها – رغم كونها مرة وقاسية – هي ان أن فكرة (المواطنة) وما يترتب عليها من أخلاقيات والتزامات، تعد الغائب الأكبر ليس فقط في وعي (المواطن) فحسب، بل وكذلك العنصر الأندر في علاقاته وسلوكياته. فلكي تتمكن مشاعر (المواطنة) من وجدان المواطن وتستقر في باطن وعيه، لا بد لها من تحقيق شرطين أساسيين كنا قد أشرنا إليهما في كتابنا الموسوم (الهوية الملتبسة: الشخصية العراقية وإشكالية الوعي بالذات)؛ الشرط الأول ويتعلق بضرورة مرور الجماعات المحلية بحالة من (الانصهار الاجتماعي)، التي يتمخض عنها ما يعرف بـ(الشخصية المعيارية)، حيث تذوب خلالها وتتلاشى مختلف النعرات الأصولية التي دأبت تلك الجماعات على اتخاذها عنوانا انثروبولوجيا لها، مثل (العشيرة/ القبيلة، أو المذهب/ الطائفة، أو القومية/ الاثنية، أو الجهوية/ المناطقية، أو اللسانية/ اللغوية). أما الشرط الثاني فيتمثل بتخلي تلك الجماعات عن تلك العناوين الانثروبولوجية – طوعا/ اقتناعا لا كرها/ فرضا- والانخراط في مشروع تحقيق ما يسمى بـ (الهوية الوطنية) العابرة للهويات الهامشية والتحتية والفرعية، والتي يتشكل من روابطها البينية وعلاقاتها المتقابلة نسيج المجتمع الحضاري.
والحال ما أن تصل تلك الجماعات إلى هذا المستوى من النضوج الثقافي وتبلغ هذا الطور من الارتقاء الحضاري، حتى تتمكن من وضع أولى خطواتها على مسار طويل ومتعرج، ولكنه المسار الصحيح المفضي بها إلى ولوج عصر (المواطنة الحضارية)، حيث لا رجعة إلى (الوراء) لما قبل مؤسسات الدولة، ولا احتمال الانكفاء إلى (الخلف) لما قبل كينونة المجتمع، ذلك المسار الذي طالما حلمت بانتهاجه - دون جدوى - أجيال وأجيال من المكونات العراقية المتعاقبة. ولعل السبب في ذلك يعود إلى ما تتمتع به الأعراف والتقاليد والقيم العصبية من قدرات على اختراق البنى التحتية لوعي المكونات السوسيولوجية والكيانات الانثروبولوجية التي يتشكل منها (المجتمع المدني)، للحد الذي تستحيل معه إلى ما يشبه (المعيار السيميائي) الذي يحتكم إليه الناشطون في هذا المجتمع من التعرف إلى بعضهم والتواصل مع أقرانهم. ولهذا فقد اعتاد الجميع – مع بعض الاستثناءات – على تقديم أسمائهم مقترنة بألقابهم العشائرية والطائفية والمناطقية، كما لو أنها (تميمة) سحرية يتبجحون باستعراض حملهم إياها أمام بعضهم البعض!.
والغريب في هذا الأمر ان اللجوء لمثل هذا الضرب من السلوك البدائي، لا يقتصر فقط على جمهور (العامة) من الناس ممن يعانون لوثة الجهل الثقافي والتخلف الاجتماعي فحسب، وإنما راج سوقها وعلا شأنها – وهنا الطامة الكبرى – بين جماعات (الخاصة) ممن يحسبون على نخب المجتمع (المثقفة) كذلك. لا بل ان هؤلاء الأخيرين يكونون أحرص من سواهم على مراعاة التمظهر بتلك العناوين الانثروبولوجية، حتى ولو كانوا من أصحاب الشهادات المتقدمة والمناصب العليا في الدولة.
أخيرا لنقلها وبصراحة؛ ان وعي الإنسان العراقي ربما يحتوي الكثير من الأشياء المتعلقة بمفاهيم الوطن والوطنية، التي أكسبتها إياه تجاربه المريرة مع السلطات السياسية المتعاقبة، التي طالما رسخت لديه الاعتقاد (بشخصنة) المفهوم الأول و(أدلجة) المفهوم الثاني. ولكنه بالتأكيد لم ينعم يوما بترف الشعور بـ(المواطنة) التي لم تفتأ قيمها الحضارية ودلالاتها الإنسانية تتوارى خلف عناوين؛ انتماءاته القبلية – العشائرية، والمذهبية – الطائفية، والاثنية – العنصرية، والجهوية – المناطقية، واللسانية – اللغوية. للحد الذي أضحت معه مقولة خالية من أي معنى أو قيمة تتقاذفها الخطابات الأصولية والبرغماتية، على سبيل المناكفات السياسية والمزايدات الإيديولوجية ليس إلّا.