غرائب العلم العراقي

الصفحة الاخيرة 2023/05/02
...

حسن العاني



من بين أجمل ما قرأت من شعر في طفولتي للشاعر الكبير معروف الرصافي، قصيدة تتغنى بالعلم العراقي كانت ضمن منهجنا الدراسي أيام الابتدائية، وجمالها يكمن في بساطة مفرداتها وعمق مضمونها وابتعاد أسلوبها عن التعقيد والرموز والانشغالات البلاغية، فمنذ السطر الأول أو ما يسمى البيت الأول يقول الرصافي في الصدر(عش هكذا في علوٍ أيها العلم) وهذا طلب صريح يتضمن أمنية أو معنى الأمنية بأن يبقى علم العراق عالياً، ومفردة (عالياً) هنا تجمع بين معنيين، الأول هو الارتفاع، والثاني يراد به (الرفعة والسمو)، وأمنية الشاعر بقاء العلم (هكذا)، عالياً مرتفعاً، لأنه في غير هذا الموقع الشامخ يعني أنه يمر بحالة حزن أو مصيبة أو انكسار. ثم يتصاعد الطلب أو المديح بطريقة التغني في الشطر الثاني (عجز البيت) في قوله (فإننا بك بعد الله نعتصم)، هذا المعنى يمثل ارتقاء بمنزلة العلم إلى مصاف المقدسات، وأية منزلة للعلم لا تفوقها منزلة أخرى حين يكون الاعتصام به بعد الله مباشرة؟!

كلام كثير يمكن أن يقال بحق العلم ودلالته، ومن هنا لم يأت مصطلح (رفعة العلم) كل خميس عبثاً أو من فراغ، فهو بناء تربوي للتلامذة في وقت مبكر على معاني الوطن والوطنية. ولكن الأمر الغريب أن الاهتمام بالعلم العراقي لا يتناسب مع منزلته، ففي الوقت الذي تتغنى فيه معظم الدول بالحفاظ على أعلامها متألقة زاهية جديدة، وتتولى إبدالها مرتين أو أكثر كل سنة، وتحرص عبر لجان خاصة على مراقبتها وإجراء اللازم مما قد تتعرض له من غبار أو مطر أو تمزق، لا يقع في دائرة معلوماتي أننا نمتلك لجاناً تتابع أحوال العلم فوق دوائر الدولة ومؤسساتها الرسمية وجامعاتها وكلياتها ومدارسها!.

الأمر الأغرب أن العراق منذ عقدين متواصلين فشل في تصميم علم جديد، فمرة يتم رفض التصاميم المقدمة لهذا السبب أو ذاك، ومرة لأن (الاقليم) المدلل يعترض على العلم القديم لوجود ثلاث نجمات رأت حكومة كردستان أنها تمثل أهداف (البعث) أو تعبر عنه قبل 2003 ، ولأن الاقليم مدلل وحكومة المركز حريصة على تدليله وتلبية طلباته فقد تم رفع النجمات، ولكن أحداً لم يسأل : لماذا لم يعترض الاقليم على العبارة المكتوبة فوق العلم، وهي غير موجودة في الأصل، بل كتبها صدام حسين بيده وخطه؟ ومن هنا بقينا نرفع علماً مشوشاً! ولكن أغرب الغرائب أن عدداً لا يستهان به من العراقيين توصلوا إلى الحل الأمثل لمشكلة العلم العراقي، وذلك بأن توزعوا إلى مجموعات، كل واحدة منها اختارت راية أو علماً غير عراقي تسير تحته، لأنه يتفق مع انتمائها وقناعتها، مستثمرة أجواء الديمقراطية المنفلتة وغياب العقاب، أما قمة الغرابة فإن هذه المجاميع ما زالت تحلف برأس العلم العراقي، مع أنها والله العظيم لا تعرف حتى ألوانه!.