الثوابت والنوابت

آراء 2023/05/04
...

 علي المرهج

يعرف مفهوم الثوابت على أنه القواعد التي لا يمكن أن تتغير على مر الأزمان، وفي الدستور العراقي ذكر هذا المفهوم بعنوان «ثوابت الإسلام»، لأن الثابت هو الذي لا قدرة لنا على تغييره، بل قبوله كما هو على أنه أوامر إلهية لا يمكن المساس بها. الثابت في الفلسفة والفكر الديني هو الإيمان بالله أو الصانع الأول للوجود، وهو المحرك الأول بتعبير أرسطو.

في الدين الإسلامي الثوابت هي الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وهي ثوابت قد تزيد بحسب المذهب الديني لكل طائفة إسلامية، ولكنها لا تنقص عما ذكرنا.

قد تتعارض «الثوابت» الدينية مع «الثوابت» الوطنية، وهنا تكون الغلبة للجماعات المؤثرة في صناعة القرار السياسي بحسب كل بلد عربي أو إسلامي.

ربما تكون الثوابت هي قيم تعارف عليها مجتمع ما، وهي عرضة للتغير بين جماعة وأخرى في مجتمع واحد، فقد تكون ما تعتقده جماعة من طيف ديني أو عقائدي على أنها ثوابت، وقد تتعارض معها جماعة ما من صنفها الديني أو العقائدي وتختلف حول هذه هذه الثوابت، وتفترض ثوابت أخرى أو تُضيف للثوابت السابقة ثوابت 

أخرى.

كثيرًا ما تتضاد الثوابت الدينية مع الثوابت القومية، ومن الممكن أن يكون ما هو ثابت دينيًا أو عقائديًا، مُختلف عليه وطنيًا، وقد يتفق كلا الطرفين على ثوابت في القيم الاجتماعية بوصفها تمثل ثابتًا وطنيًا، ولكنهم يختلفون أشد الاختلاف حول الثوابت الدينية حتى عند اتباع الدين الواحد، ويزداد الخلاف عند اتباع الطوائف في الدين الواحد.

طرح الفارابي فكرة «النوابت» وشبههم مثل الحشائش التي تخرج في أرض مليئة بالأثل، ليكون مثلهم كمثل النباتات الضارة، وهم بمثابة نباتات طفيلية قد تُفسد الزرع كله، فيكون أشد ضررًا على بناء المدينة الفاضلة، بينما نجد (ابن باجة) يشبههم بـ «المتوحد» لأن المتوحدين عنده هم «النوابت»، الذين يعيشون في وسط ليس وسطهم، لأنهم كمثال الأنبياء أو الفلاسفة الذين يظهرون في أرض ومجتمع يرفضهم ويلفظهم، لأنهم ظهروا في مدن جاهلة لا يعرف أبناؤها قيمة هؤلاء «النوابت»، الذين يسعون للتغيير في مجتمعاتهم، ويكشفون عن عقمها وجهلها، فـ «النوابت» عند ابن باجة هم أهل العقل الذين لم يتمكنوا من «التوحد» مع الفكر السائد لما يحلمون فيه من أمل في خلق «مدينة فاضلة» في وسط يعيش فيه بغربة داخلية وخارجية. غربة فلسفية لا يستطيع على وفقها قبول العيش في تابعًا لسلوك الجماعة، التي تُحركها الأهواء ولا تستجيب لنداء العقل.

الجماعة تُحركها العاطفة والوجدان الذي يستجيب له الفرد بوصفه جزءا من الجماعة، ولا صوت له ولا قدرة له على «تدبير» أموره والمشاركة في تدبير مجتمعه إلا من خلال استجابته للحس الجمعي.

ما قدمه ابن باجة حول مفهوم «النابت»، قد تجاوز فيه ما طرحه الفارابي الذي ظل أسير الفهم السائد لمفهوم «الثابت» و»النابت» على وفق الفلسفة الأرسطية وتواشجها مع الرؤية الدينية الإسلامية في الشائع منه، ولكن غبن باجة تجاوز الفارابي في فهم (مقاصد الشرع) و(مقاصد الفلسفة) في تجاوز المألوف السائد وإنتاج رؤية جديدة، ومحاولته إيجاد دور فاعل للفيلسوف «المتوحد» «النابت» في المدن الفاسدة. ذلك الفليلسوف الذي يُثير بفكره وإعتزاله رغم اعترافه بأن «الإنسان مدني أو اجتماعي بالطبع»، لكنه باختياره لعزلته إنما يُرسل رسالة اجتماعية بأن هذه «الفيلسوف» الكائن «المتوحد»، إنما يستطيع حتى بعزلته أن يرسل رسالة اجتماعية هدفها إعادة بناء الوعي المجتمعي بعزلته، حينما يختار أن يحترم عقله وسط كل أنماط التجهيل السائدة التي تهدف إلى تغييب العقل وتجاهل دور الفيلسوف في صناعة حياة أفضل.

يقول فتحي المسكيني في كتابه «فلسفة النوابت»، بحسب فهم ابن باجه أن «كل فيلسوف هو نابتة مهما كانت ملته، بل أيضًا كل إمكانية تفلسف هي

 نابتة».