مملكةٌ بلا حدود

آراء 2023/05/04
...

 د.عبد الخالق حسن

 

في أحلامنا وفي واقعنا، فإنَّ كلَّ شخصٍ فينا قد داعب خياله أيام طفولته أن يكون عضواً من أعضاء مجتمع فريد اسمه مجتمع الصحافة.

فحينَ كنَّا نتسمرُّ أمام التلفاز، أو نقلِّبُ المجلات والصحف، كانت صورة الصحفي في ذهننا ترتبط بكائنٍ يوقد من حبر قلمه شموعاً نستكشفُ بها طريقنا، وننذهل من شدة لمعانها.

لم تكن الصحافة التي يحتفل العالم بيومها في الثالث من أيار في كلِّ عامٍ، مهنةً مترفةً أو وظيفةً مريحةً مثلما كنَّا نتصور، فالصحفي حامل همومٍ دوماً، وباحث عن الحقيقة، وطبيب للأزمات الاجتماعية، وكاشف عن الاختلالات التي تضرب المجتمع.

في العراق مثلاً، كانت أطوار الصحافة غريبةً مثل غرابة تاريخ العراق الحديث. عمر الصحافة في العراق اليوم تجاوز قرناً ونصف القرن من السنوات، التي كانت الصحافة فيها شاهداً على تحولات غيرت تاريخ العراق. ومثلما كان العراق أول بلد عربي يطلق بث التلفاز، كان أيضاً من بين أوائل الدول العربية التي عرفت الصحافة الورقية. ومع ولادة الدولة العراقية الحديثة في بداية عشرينيات القرن الماضي، ارتدت الصحافة أثواباً متنوعةً، بين موالاةٍ ومعارضةٍ وصحافةٍ حزبية، وصحافةٍ مستقلة. حتى إذا ما أطلَّت الحياة الحزبية برأسها بقوة في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، أصبحت حينها الصحافة سلاحاً وأداةً في صراعات الأحزاب بكلِّ تلاوينها. لكن لا أحد كان يتصور أن الصحافة في العراق ستكبلها الأغلال، وتقيدها القيود مع وصول النظام الدكتاتوري الذي أرهق الصحافة والصحفيين، وجعلهم ينزفون مواهبهم في مواطن غريبة على ذائقتهم واهتماماتهم.

فغادر من غادر، وصمت من صمت، واضطر من اضطرته المعيشة للعمل مرغماً تحت سطوة وعين رقيب متوحش.

ومع سقوط الدكتاتورية، نجا الكثير من الصحفيين من تلك المقصلة، التي قتلت إبداع الكثير من الأقلام الصحفية العراقية، لتسعيد الصحافة اليوم مكانتها، ولتسهم في كتابة تاريخ جديد للعراق، تحرر فيه من القهر والقمع والقتل. فكانت الصحافة في مواطن كثيرة على قدر المسؤولية، برغم الأخطار التي التفت حول العاملين فيها، بسبب الاستهدافات المتكررة للإرهاب لكلِّ من يعمل في منصات الصحافة. وإن أردنا استذكار الشهداء الذين مضوا في درب الصحافة، ستخنقنا دموعنا حزناً على من فقدناهم، وكثيرٌ منهم كان ما زال في خطواته الأولى، وبعضهم كان من المخضرمين.

فتحيةٌ للصحافة والصحفيين في يومهم الأنيق مثل أقلامهم، وشكراً لكلِّ العاملين في هذه المملكة التي لا تحدها حدود، ولا تحتاج لجوازات دخول في عالمها، سوى الذائقة والقلق والإبداع والتميز.