ثامر عباس
ليس من الصواب محاكمة الشخصية العراقية من منظور كونها حالة (غريبة) عن طبيعة المجتمعات البشرية المعروفة، أو من منطلق اعتبارها نمطا (شاذا) في عالم الثقافات الإنسانية المألوفة، فقط لمجرد كونها تعيش حالة من (الاحتباس) و(التشرنق)، داخل ثقافات (فرعية) نسقية، استعصت بناها التحتية أمام تيارات التحديث الجارفة وموجات التجديد العاصفة، التي أوجدتها البراديغمات الغربية الحديثة والمعاصرة
ناهيك عن اجتراحات العولمة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والهوية، فضلا عن ميادين الجغرافيا والتاريخ والدين.
هذا إضافة إلى ما حققته المنهجيات (الجينالوجية) و(الاركيولوجية) من فتوحات مزعزعة على صعيد البحث في الأصوليات السوسيولوجية والتنقيب في الخلفيات الانثروبولوجية والنبش في المطمورات السيكولوجية، وإذا كان المجتمع العراقي يشارك بقية المجتمعات البشرية الأخرى في مثل هذه الظواهر الإنسانية، إلاّ أنه – وللأسف الشديد – لم يفتأ يشكل (استثناء) محيرا لكل القواعد والضوابط المتواضع عليها في هذا الشأن، مثلما ويحتل مركز الصدارة في الخروج عن كل ما سنته البشرية من قوانين وأنظمة وتشريعات، لجهة التخفيف من وطأة تلك المواريث التاريخية والحد من آثار الأنساق الثقافية، التي لا تبرح تشد جماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية إلى الوراء، وتحول دونها والخروج من قواقع الماضي وشرانق التاريخ، بغية التحرر من قيوده المزمنة والتخلص من آثامه المتوطنة.
وفي هذا الإطار فقد لفتت انتباهنا دراسة انثروبولوجية أنجزها الأكاديمي (جواد كاظم التميمي)، الذي عالج من خلالها هذه الموضوعة الإشكالية من منظور اللسانيات الانثروبولوجية، حيث توصل - بناء على استقراء جملة من النصوص السومرية والأكدية والبابلية والآشورية والإسلامية والملكية والجمهورية - إلى حصيلة مفادها بأن ما تعانيه الشخصية العراقية من ارتباك ثقافي وتعسّر حضاري ونزوع تدميري، ما هو إلاّ نتاج خلفيات أسطورية وسرديات تاريخية واعتقادات دينية وأصوليات ثقافية وصراعات سياسية واستبطانات لغوية، شكلت ولا تزال قاعدة بنيوية صلدة ليس من السهل تفكيكها أو اختراقها من جهة، مثلما ساهمت بتكوين راسب عقلي - نفسي ليس بالإمكان زحزحته أو إزالته من جهة أخرى. للحدّ الذي أورثها ثلاثة أنماط ثقافية، وإن بدت مختلفة الأدوار والوسائل إلاّ أنها متشابهة الوظائف والغايات، لا تعدو أن تكون (أقنعة سيميائية) تخفي أو تحجب طبيعة التشظي الذي ابتليت به تلك الشخصية على صعيد بنيتها اللسانية – الثقافية – النفسية.
وهكذا، فقد لاحظ الأستاذ المذكور أن النمط الثقافي (الأول) ويتمثل بالتمظهر (الذئبي)، الذي يعبر عن الشخصية التي تمتلك من مقومات القوة الفيزيائية المجردة، ما يجعلها قادرة على فرض سلطنها وبسط هيبتها على من يحيطون بها سواء في مجال العائلة أو المدرسة أو الدائرة أو الحكومة، لا بل حتى القبيلة والعشيرة والطائفة.
وإما النمط الثقافي (الثاني) فيتمثل بالتمظهر (الثعلبي)، الذي يجيد سلوك التملق ويحسن التلون إزاء عناصر النمط الأول (الذئبي) من جهة، في حين لا يتورع، من جهة أخرى – عندما تتاح له الفرصة وتتوفر له الإمكانية – من انتهاج سلوك التعالي وممارسة التسلط على مكاريد النمط الثقافي الثالث، الذين ينتمون إلى ما يسميه الباحث بالنمط (الجرذي)، الذي تغلب على عناصره مظاهر (المسكنة) و(المظلومية) و(الانكسار).
وكخلاصة، فقد تضمن هذا النص التحليلي لانثروبولوجيا الشخصية العراقية نتيجة مفادها؛ بأن تلك المستويات من التبلور والتمظهر لا تتموضع في السلوك الشخصي أو العلاقات الاجتماعية كممارسات منفصلة عن بعضها أو كونها غير مترابطة، بحيث تبدو كما لو أنها خاضعة لمبدأ (التتابع) المرحلي أو (التمرحل) التاريخي، وإنما هي أنماط (متعايشة) ونماذج (متضايفة) باستمرار داخل بنية الشخصية ذاتها. بيد أن ظهور أحدها مرهون بعامل (توازن القوى) بين قدرات الذات على صعيد الفعل والتأثير، وبين اشتراطات المجتمع على صعيد المنع والإعاقة، من حيث الظروف السياسية والإمكانات الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية والسياقات التاريخية.