الموصل تعلمت أن تكون حمامة

آراء 2023/05/07
...


 حسب الله يحيى 


ما من مدينة عراقية واجهت سلسلة من الحصارات والدمار والخراب والظلم والاضطهاد، كما واجهتها مدينة الموصل.

وما من مدينة خرجت من هذا العالم الجهنمي، كما خرجت منه الموصل، عبر معاناة أهلها الذين كانوا هم الأساس في اعادة الحياة اليها.

الموصل لم تواصل القرابة والجيرة حسب؛ وإنما وجدت نفسها بعوالم شتى من الاقوام: عربا وكردا وتركمانا ومسيحيين وأرمن وايزيديين وشبكا وصابئة وسنة وشيعة، وحتى يهودا.

مدينة قدت من التنوع، غير أن المرء لا يجد ثمة فوارق في التآخي والتآلف والانسجام والتفاعل بين سكانها.

ولان هذا التنوع البارز هو أحد أسرارها الخفية، فإنها لا تجاهر بوصف هذا تمييزا عن ذاك، الا بصفاته الاخلاقية وقيمه الحميدة وتعامله الحسن مع الاخرين وتفاعله مع صفحات الحياة، مرها وحلاوتها.

الموصليون الذين بنوا اسوار مدينتهم وقلاعهم في (باشطابيا، قره سراي،باب الشمس، النمرود، الحضر، ووو).

ومثلما أسسوا في بيوتهم سراديب، حتى تحفظ مؤنتهم وأمنهم من العدا؛ كانوا يقظين امام كل السهام التي وجهت إلى كل فرد فيهم.

فما من بيت لم يجد حصته من الخراب والتدمير، وما من عائلة لم تفقد عزيزا من أعزتها، وما من امرئ إلا وذاق الجوع والظمأ والغربة، ذلك أن آخر من غزاهم ودمرهم كان مرهونا بوحشية لم تبق حجرا على حجر، ولا نفسا تتنفس نرجسة من ربيع المدينة.

كانت هذه الوحشية عدوة اساسية لتحضر هذه المدينة بحيث عملت على (ادارة التوحش)، كما يقول قاموسها ودليلها ومنهجها وكتابها الظلامي هذا.

ولأن المآسي كانت تتفوق على كل حي؛ وجدت الموصل نفسها امام سلسلة من الخيبات والمحن، التي لا تستوي على نقطة حياة، ذلك أن تلك الظلامية الداعشية، ما كانت تهدف الا لقتل عقل الموصلي التنويري في وئده عن الوجود تماما.

الموصل، خرجت من رماد النيران التي اشتعلت في قلبها، كما العنقاء التي تحتمل الجمرات وتواجهها بالتحليق في فضاءات الله الواسعة.

الآن، ترى من الموصل جانبها الحضاري الأصيل والمتقدم، الذي يبهر العيون ويعجب المحبين ويثير خيبة خصومهم من الظلاميين.

الموصليون، قوم يحترمون النظام، كما يحترمون الجدية في العمل، ويحرصون على أن يتعاونوا بشكل جاد مع الحكومة والتي يرون انفسهم في عيونها، فلا يلقي الموصلي بكل صغيرة وكبيرة عليها، وانما هو في تعاون مستمر معها.

غابات الموصل تعرضت للحريق، فإذا أهل المدينة لا يكتفون بأطفاء الحكومة للنيران، وبدلا من انتظار اجراءات الحكومة لتأهيلها من جديد؛ عمد الموصليون وعلى عجل إلى اقتنا آلاف الشجيرات وزرعها في أرض الحريق مرة أخرى، لكي تنمو في ربيع بدأت ملامحه تتشكل وقتئذ، ذلك أنه ليس بوسعهم الانتظار إلى ربيع مقبل.

الفقير والمعوز والمعاق وذوو الحاجة إلى الاستقرار والحياة الامنة، لم يسمحوا لأحد من هؤلاء ان يتوقف عند قارعة الطريق متسولا أو بائعا أو مناديا على حاجات بسيطة بغية بيعها وصرفها على قوت يومه، وانما تولوا امرهم بالرعاية.

 كذلك لم تعالج أزمة الماء والكهرباء والبناء بالتجاوز، المدينة تشرب من ماء دجلة المعقم الصافي، وترفض أن يكون تلوث المولدات الكهربائية وعوادم السيارات وانتشار المحال الصناعية في قلب المدينة، لقد أوجدوا لها أمكنة خاصة في جانبي المدينة، لا أحد يلوث الشارع، لا أحد يتجاوز على اشارات المرور، لا أحد ينتظر احدا حتى يحمل عنه النفايات، كل فرد مسؤول عن كل بقعة وشبر في المدينة.

مدينة يحبها اهلها، ويعشقونها ويذودون عنها، ليس بالسلاح فقد ملّوا ادوات القتل بكل صنوفها، وباتوا يعرفون جيدا أن الطريق الوحيد لعيشهم الأمن، أن يكونوا حمامات سلام تملأ الافق، كما تملأ الزمان والمكان وتنعش الحياة محبة وتألقا، ومع أن الجانب الايمن للمدينة، ما زال يعاني من خراب وتدمير هائل، إلا أن سمة التفاؤل موجودة في وجه كل موصلي، فهو يجد لنفسه فسحة للبناء المنظم والجميل والمنسق بين هذا الركام الهائل من الخراب.

أمور كثيرة لافتة للانظار في هذه المدينة الساحرة، التي ستتحول في القابل من الايام إلى مدينة سياحية. 

وربما كان فاتحة هذه الحمامات السلمية، هو استقبالها مهرجان الربيع بعد غياب كلي دام عقدين من الزمن المر.

الموصل، أحياها حب أهلها بتعاونهم مع كل خطوة خيرة عملت على استعادة هذه المدينة التي أرادوا قتلها، فإذا هي تبعث من جديد لتنطلق بها حمامات السلام.