لم تزل صورة الرئيس اللبناني المقبل غير واضحة، والفرص الرئاسية قليلة وسط تفاقم الأزمات والصراعات، إذ إن سوء النية ما زال يفرض مواقفه على هذا الطرف أو ذاك، ففكرة البحث عن الرئيس الواقعي تعني البحث عن بيئة واقعية، وعن توافقات سياسية، يمكن أن تقوّض النوايا السيئة، وتفتح أفقا للحوار وللقبول بالآخر، وإعادة ضبط المؤثرات الخارجية لتكون دوافع في دعم السياسات اللبنانية الداخلية.
اللاتوافق سيظل هو الخط الساخن والفاصل بين الفرقاء، وستظل لعبة البحث "رئيس توافقي" شبيهة بالبحث عن "الأبرة في كوم القش" لكنّ هذا البحث الصعب لا يعني سوى البقاء بانتظار "فخامة السيد الرئيس" برغم معرفة أن كثيرا من هذا الانتظار قرينٌ بوجود من يطبخ الأزمة في الخارج، ومن يأكلها في الداخل، وما بين تقاطع الإرادات تتحوّل هذه الطبخة الحجرية إلى مأساة متواصلة للشعب اللبناني، ولبلدٍ طالما تغنّى به الشعراء والتاذ به الباحثون عن الجمال.
ما يجري في لبنان يمكن أن يكون درساً سياسياً وانثربولوجياً، على مستوى تأطير عمل المؤسسات الحاكمة وتنظيم مساراتها الستراتيجية، أو على مستوى إدارة التنوع الديموغرافي والطائفي والديني، حتى بات الجميع وكأنهم يختصرون الأزمة في "المنصب الرئاسي" بوصف هذا المنصب السحري، المحدود بصلاحياته في مرحلة ما بعد "الطائف" هو القصبة التي يبحث عنها الغرقى في بحر الاشتعالات.
أحسب أن هذا التوصيف "السردي" قريب من الواقع، ليس لأن الجميع يختصرون، أو يبحثون عن رئيس بمواصفاتٍ خاصة، وبمزايا يختلط فيها الكارمزي مع البابوي مع الثوري، بل لأن هناك مَن يُريد التعايش مع قناع للرئيس، وليس مع رئيسٍ واقعي، وحقيقي بالمعنى الدستوري الذي ينبغي أن يخدم الدولة والمجتمع، ويدافع عن السيادة الوطنية والاستقلال والأمن المجتمعي والسلم الأهلي، وعلى نحوٍ يجعل السياسيين يتجاوزون عقدة "اللبننة" والبدء بحوار حقيقي، يأخذ بنظر الاعتبار حساسيات الواقع وتعقيداته الأمنية والسياسية والاقتصادية، وحتى الطائفية، والتعاطي مع ما يجري برؤية واضحة، تضمن المراجعة النقدية، مثلما تكفل أنسنة الخيارات، وبما يجعل من المنصب الرئاسي مصدرا للقوة الجامعة وليس للخلاف، ومن سلطته الرمزية أفقا لتوافقات تشمل معاينة كلّ مشكلات لبنان العميقة، والمُهمّشة، والأكثر أهمية وفاعلية في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أزمات تطول الأسواق والبنوك والمؤسسات ويوميات المواطن اللبناني.