أ. د هاشم حسن التميمي
عايشت على مدى أربعين عاماً مراحل مختلفة من حياتنا الجامعيَّة ورصدت عن قرب هذه التقاليد من جامعة هارفرد وأكسفورد وشنغهاي وبرلين والقاهرة وسنغافورة وحتى نواكشوط وجزر القمر فوجدت تقديساً واحتراماً للتقاليد الجامعية المعرفية والإنسانية.
كان العراق ومنذ تأسيس المدرسة (الجامعة) المستنصرية في العصر العباسي عام 1233م من أوائل الدول التي رسّخت التقاليد العلمية التي انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها وأدرك السلاطين وعامة الناس من بسطاء الشعب أنَّ للعلم تقاليد وللمعلم هيبة وللطالب رغبة في المعرفة ولبيوت العلم حدوداً من الاحترام تقترب من التقديس لا يقل بدرجاته عن احترام المؤمن لدور العبادة ومقامات الأنبياء والأئمة وصار يشار لمدارس العلم العراقية بالبنان وأصبحت مدارسنا النحوية في الكوفة والبصرة مصدراً يستمد منه أهل المعرفة علومهم وتقاليدهم التي انتشرت في أصغر حلقات الدراسة في أواوين المساجد والكنائس وانتشر صيت بيت الحكمة في أرجاء العالم حتى وصلنا لعصرنا الحديث ونجحنا في إرساء البنية المعرفية لأقدم الجامعات العراقية التي ظهرت كلياتها للنور مطلع القرن الماضي قبل تأسيس جامعة بغداد رسمياً عام 1959 وكانت مصدر جذب للطلبة العرب والأجانب، وبعد الذي جرى وسيجري من خراب شهدته البلاد بسبب الحروب والحصار ولسوء الإدارة العامة وعنجهية السياسة وإدارات المحاصصة التي استفحلت بعد 2003 واعتمدت أسلوب الولاء وليس الأداء وقادنا ذلك للأسف لانهيار التربية والتعليم العالي.
ونحتاج باختصار كبير لأن نقلص هذا التوسع غير المعقول في القبول ونشدد على الجودة والرصانة ونحيي التقاليد الجامعية مثلما نحرص على ضخامة المباني وبهرجتها بدلاً من دفع الطلاب لسهر الليالي والاجتهاد المعرفي لإسقاط الشعار السيئ (ادفع قسطاً ترتقِ صفاً)، نحتاج لثورة معرفية وثقافية تقول كلا لأسلوب (الحوسمجية) في التربية والتعليم العالي..! ونعم لسهر الليالي والعودة لسياسة القبول في الدراسات العليا على أساس المنافسة لاختيار الأحسن وإلغاء القنوات الاستثنائية ليعود للدراسات علوُّها وللشهادة هيبتها… ونكرر كما قلناها قبل ثلاثين عاماً (امنحوا المكرمين كلَّ شيء إلا العلم فاتركوه لأهله) حين ينهار التعليم تنهار الدولة.. ونحتفظ بالتفاصيل لأنها مخيفة ولمن يريد الإصلاح نفتح له الملفات.