انفراج العلاقات السعودية الإيرانية ستكون له مردودات هائلة على المنطقة
باتريك ونتور *
ترجمة: أنيس الصفار
في شهر نيسان الماضي أكدت وزارة الخارجية الإيرانية بلا ضجيج أن سفارة طهران في الرياض قد أعيد افتتاحها لأول مرة منذ العام 2016 في أحدث إيماءة تأكيد على أن هاتين القوتين الشرق أوسطيتين قد قررتا بالفعل إعادة عقارب الخصومة بينهما إلى الوراء، تلك التي قطعت أوصال المنطقة على مدى 40 عاماً.
تشير الدلالات والشواهد من كل نوع، الصغيرة منها والكبيرة، إلى أن المصالحة حقيقية وصادقة: إذ استؤنفت رحلات الطيران المدني بين البلدين، وفي مسابقة سعودية لقراءة القرآن فاز إيراني بمبلغ 800 ألف دولار، وبدأ الصلب الإيراني يشق طريقه إلى الأسواق السعودية، وشوهد مسؤولو البلدين وهم يتعانقون عقب إنقاذ البحرية السعودية 60 إيرانياً كانوا محاصرين في السودان، ومن المتوقع أن يعلن إبراهيم رئيسي القيام بزيارة إلى الرياض قريباً، وهي أول زيارة يقوم بها رئيس إيراني
إلى هناك منذ 2007.
عملية المصالحة هذه، التي يقودها إسمياً طرفان متنافران إلى أغرب ما يمكن أن يصل إليه التنافر .. وهما ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ذو الـ 37 عاماً والمرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي ذو الـ 83 عاماً، أعلن عنها رسمياً في الصين في الـ 10 من آذار الماضي عندما وضع الطرفان خطة أمدها شهران لتطبيع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بينهما بعد ثماني سنوات من التوترات.
انفصمت عرى العلاقة بين الطرفين في العام 2016 عقب التظاهرات التي اجتاحت السفارة السعودية في طهران بسبب إعدام رجل دين سعودي شيعي معارض، لكن الحقيقة هي أن الجانبين، اللذين يمثلان ثقافات وأجنحة مختلفة من الدين الإسلامي، كانا مشتبكين مع بعضهما في حروب بالوكالة لفرض السيطرة على المنطقة منذ الثورة الإيرانية في 1979.
السؤال الآن هو إن كانت رياح التغيير هذه ستنتشر لتعم الشرق الأوسط وتفك عقد الصراعات في اليمن ولبنان والعراق وسوريا .. وحتى إسرائيل، وهي صراعات فاقمتها كلها أجواء التعادي السعودي الإيراني، بل وعملت على دوامها وتواصلها.
تقول “سنزيا بيانكو”، التي تشغل منصب زميل باحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن الصفقة حقيقية ولكنها في غاية الهشاشة، لأنها تنطوي على بعض النقاط المصيرية الحرجة مثل احتمال صعود رئيس جمهوري إلى المنصب في الولايات المتحدة أو وقوع هجوم إسرائيلي على إيران. كلا الجانبين لا يزالان يبحثان عن سياسات ضمان مستقبلية محتملة. يشبه أحد الدبلوماسيين العرب في لندن العملية بإنشاء طابق أرضي كي تتمكن البلدان الأخرى من البناء مرتكزة عليه، ملمحاً إلى أن التداعيات في المنطقة يمكن أن تكون مصيرية وفاصلة في نهاية المطاف. الاتفاق نفسه قد ينطوي ضمناً على تأكيد بانحسار نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط وتقلص قوة إسرائيل، إلى جانب عودة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الحضن العربي وفتح سوق مستقبلية جديدة للسعودية على المدى البعيد لتصريف منتجاتها الكاربونية متمثلة بالصين، كما أنها بداية النهاية لعزلة إيران الاقتصادية.
لكن أيهم كامل، رئيس قسم أبحاث الشرق الأوسط في “مجموعة أوراسيا”، يتوقع عملية بطيئة الإيقاع برغم وجود الصين ضامناً. يقول: “أنت لا تستطيع الانتقال من حالة التنافس إلى حالة التعاون الفعال بين يوم وليلة. لذا أشك في قدرة العلاقات الإيرانية الخليجية على انتزاع نفسها من براثن حقبة من المواجهات إلى حقبة ثانية طبيعية الأجواء حيث هناك الخلاف والتنافس، وفي الوقت
نفسه هناك تعاون.»
يصور أيهم عودة العلاقات بأنها جزء من عملية إعادة تنظيم أوسع للأوضاع في الشرق الأوسط. إذ يقول: “تريد السعودية ودول الخليج إقامة شراكة عالمية أوسع مع الولايات المتحدة باعتبارها السند الرئيس، ولكنه ليس الوحيد، ويبقى أداؤهم قائماً على أساس الحفاظ على متانة العلاقة بواشنطن، ولكنهم عازفون عن قطع علاقاتهم
بالقوى الأخرى مثل الصين.»
بدأت الرياض فقدانها الشعور بالأمان في ما يخص علاقتها بواشنطن منذ عشر سنوات على الأقل. فما إن انتهى اعتماد الولايات المتحدة على النفط السعودي حتى بات محتماً أن يصبح دورها، كمتكفل بتوفير الأمن للرياض، موضع شك وتساؤل وبدأ مسارا الدولتين بالتباعد شيئاً فشيئاً. من بعد ذلك رأت الرياض في دعم الرئيس “باراك أوباما” لثورات الربيع العربي ضلال رأي، كما حاولت إعاقة مساعيه للتفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران في العام 2015.
وجدت الرياض في زمن الرئيس “دونالد ترامب” عين السياسة الأميركية التي كانت تنصح بها بالضبط، بما في ذلك تسليط أقصى العقوبات على إيران، بيد أنها لم تلبث أن اكتشفت أن تلك السياسة لم تعد عليها بما كانت تحب وتتمنى. فحقيقة أن الصواريخ إيرانية الصنع قد تمكنت في شهر أيلول 2019 من تعطيل نصف طاقة المملكة السعودية على الإنتاج لفترة مؤقتة جاءت بمثابة انكشاف صادم لمدى هشاشة الوضع السعودي، وكانت الصدمة أشد عندما لم يتقدم ترامب للدفاع عن الرياض. الشيء نفسه حدث مع دولة الإمارات العربية المتحدة، التي شعرت هي الأخرى بحزة نفس مؤلمة إزاء ما اعتبرته شعوراً باللامبالاة حين تعرضت أربع سفن للهجوم في خليج عمان في أيار 2019.
بعد ذلك جاء تعهد الرئيس “جو بايدن” في العام 2019 بجعل المملكة السعودية “منبوذة” فأكد الإيحاء بأن الديمقراطيين أيضاً لن يأتوا بالخلاص معهم.
من هذا المنطلق أراد الأمير محمد أن يبعد نفسه عن خط النار خشية أن تصبح السعودية هي قلب الاستهداف الإيراني في حالة وقوع هجوم إسرائيلي على مواقع إيران النووية. أراد الأمير بذلك أن يحذو حذو دولة الإمارات، التي تعد أحذق المتمرسين في فن التحوط، بأخذ موضع يجعله أقل تعرضاً ومن هناك يبدأ التركيز على تطوير الاقتصاد السعودي.
يقول فارع المسلمي، الذي يحمل لقب زميل في شؤون الشرق الأوسط بمؤسسة “تشاثام هاوس”: “لقد تعب السعوديون من صورتهم بأنهم ليسوا أكثر من ماكنة صراف آلي عالمي، وهم لن يعودوا بعد الآن مجرد بقرة حلوب تدر الأموال على العالم.»
الخصومة بين المملكة السعودية وإيران قد تكون عمقت العديد من الصراعات القائمة في المنطقة منذ زمن وزادتها تأججاً، ولكنها لم تخلقها من عدم، كما أن المصالحة لن تنهيها.
تقول بيانكو: “هذه الصراعات جميعاً تولدت ذاتياً ولكن لها أيضاً بعداً إقليمياً يغذي العنصر المحلي، وهذا يجعلها أكثر التفافاً
وتعقيداً وأشد دموية.»
إحدى الفرص المتوخاة لإحراز تقدم تكمن في اليمن، وهي أفقر دولة في العالم العربي، حيث سلحت إيران المتمردين الحوثيين الذين يحاربون تحالفاً تقوده السعودية لكنه يبدو اليوم وكأنه أكثر
تأييداً لمساعي السلام.
يقول المسلمي: “ربما كان الإجهاد قد نال من الحوثيين أيضاً بعد تسع سنوات من الحرب الأهلية، لكن السعوديين من جانبهم يعلمون أن أصغر صاروخ حوثي يطلق من اليمن يمكن أن يتسبب بتكاليف إضافية مقدارها 500 مليون دولار كتأمينات.»
بيد أن أجواء العداء بين الحركة الحوثية والحكومة المعترف بها دولياً والقوى الانفصالية في الجنوب لها جذور في اليمن نفسه. تقول دينا اسفندياري، وهي محللة لشؤون الشرق الأوسط من مجموعة الأزمة الدولية: “سيطرة الإيرانيين على الحوثيين ليست تامة، لذا فإن الوعد الإيراني ببذل كل ما يمكن بذله لن يتعدى حدود الوعد.»
مقابل المساعدة الإيرانية في اليمن يبدو أن السعودية قد أبدت استعدادها لتطبيع العلاقات مع الزعيم السوري بشار الأسد. فعلى مدى 12 عاماً كان الأسد يعامل معاملة المنبوذ، ولكن بلده أعيد تقبله يوم الأحد الماضي في جامعة الدول العربية. تؤكد الرياض في سياق حجتها أن التطبيع قد يؤدي إلى تقوية المؤسسات السورية وهذا يفتح أكثر السبل واقعية لاستعادة النفوذ والسيطرة على شبكات المخدرات العابرة للحدود.
لكن مرة أخرى تبرز العقبات. فقطر، وهي شريك أساسي لواشنطن في الخليج، تطالب الأسد بتقديم تنازلات سياسية، وهو شيء أظهر الأسد من قبل أنه ليس مستعداً للقيام به.
كذلك ليس من الواضح ما الذي سيعنيه التطبيع بالنسبة للشرائح السكانية الكبيرة في المناطق الواقعة خارج سيطرة الحكومة السورية، حيث يريد الأسد من تركيا أن تغادر مناطق شمال سوريا مع إيقاف الدعم المالي للمتشددين في محافظة إدلب، لكن أنقرة لا تبدي استعداداً للخروج بلا ضمانات تتعلق بالكرد السوريين عند حدودها. أما الولايات المتحدة فهي مصممة على أن الكرد يجب أن ينالوا حصة من موارد النفط والغاز السورية على غرار النموذج الفدرالي في العراق.
الدولة الثالثة التي قد تنتفع من انتهاء العداء السعودي الإيراني ستكون لبنان. فهذه الدولة لا تزال بلا رئيس منذ انتهاء فترة ولاية ميشيل عون في شهر تشرين الأول. هذا المنصب يجب أن يتولاه بموجب القانون مسيحي ماروني، لكن الفصائل التي يدعمها السعوديون وتلك التي يدعمها الإيرانيون لم تتمكن من الاتفاق على بديل برغم جولات التصويت المتعاقبة.
تضع جماعة حزب الله قوية النفوذ والمدعومة من جانب إيران وكذلك حركة أمل بزعامة رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، اللتان تشكلان معاً القاعدة الشيعية في لبنان، دعمهما إلى جانب سليمان فرنجية، وهو صديق مقرب من الأسد لكن المملكة السعودية ترفض دعمه.
كل هذا ينبئ بكارثة محتملة لرئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو”، لأنه كان يحسب أن اتفاقات إبراهيم التي وضعت هندستها إدارة الرئيس ترامب سوف تسفر عن تطبيع العلاقات مع المملكة السعودية، بيد أن الرياض بدلاً من ذلك ذهبت إلى تطبيع العلاقات مع أعداء إسرائيل، وهم إيران وسوريا وحتى حماس.
فقد زار مسؤولون كبار من منظمة حماس المملكة السعودية لأول مرة منذ العام 2015، كما أن تحرك السعودية الأخير لأن تكون “شريك حوار” في “منظمة شانغهاي للتعاون” التي تتمتع فيها إيران بوضع مراقب لا يمكن أن يثير لدى إسرائيل إلا مزيداً من القلق.
في حديث أجراه مؤخراً مع شبكة “سي أن بي سي” قال نتانياهو مكرراً نغمته القديمة: “من يضع يده بيد إيران إنما يضع يده بيد الشقاء. انظروا إلى لبنان.. انظروا إلى اليمن.. انظروا إلى سوريا.. انظروا إلى العراق. خمسة وتسعون بالمئة من مشاكل الشرق الأوسط منبعها من إيران”.
قبل عامين ربما كانت السعودية ستتفق مع هذا التقييم للأوضاع، ولكن يبدو أنها قد اتخذت قرارها بأن التعاون، بدلاً من نهج المواجهة الإسرائيلي، هو الطريق الصحيح إلى أمام.
إذا ما ترسخت المصالحة فسوف تكون بشرى الخير لليمن ولبنان وسوريا.. ولكنها نذير الوبال لإسرائيل.
*المحرر الدبلوماسي لصحيفة الغارديان