محمد غازي الاخرس
ومن العجيب أنني حتى وقت قريب كنت أفهم قولهم: شوفته نجوم الظهر، على أنه يعني تصعيب الأمر على أحدهم حتى لكأنه يرى ما تستحيل رؤيته، وهي النجوم في عز الظهيرة.
هكذا كنت أظن مخطئاً حتى وجدتني أقلب في (مجمع الأمثال) للميداني، فوصلت إلى قول العرب: رأى الكواكب ظهراً.
وإذا بالمعنى يختلف تماماً عما كنت أتوهم، فـ "رأى الكواكب ظهراً" يعني: أظلم عليه يومه حتى أبصر النجم نهاراً، ويستدل الميداني على ذلك بقرينة قول طرفة بن العبد: أن تنوّله فقد تمنعه، وتريه النجم يجري بالظهر.
ويضرب المثل عند اشتداد الأمر، فإذا ذهبنا إلى معاني التهديد، فإن إظلام النهار شائع ومتكرر كثيراً في اللغة، وذلك متأت من أن النسق النفسي للإنسان يميل إلى إضفاء السلبية على الظلام مقابل إيجابية النهار. تراهم يقولون: اليوم أسويها عليك ظلمة، بمعنى تصعيب أمر ما، أو : سويتها علي ظلمة، أو : ظلمتها بوجهي.
وللدلالة على الحيرة وضياع الحلول، يقولون: ظلمة ودليلها الله، والعرب تقول لمن نزلت عليه داهية: اسودت الدنيا في عينيه، ويهدد المصري قائلاً : يا ويلك ويا سواد ليلك.
أما الحاج زاير الدويج فيصف شجاعة العباس بالقول : حمل سيفه بالشمال وطبر صار .. موت بيها الگوم واظلم النهار .. آه ويلي من وگع منه اليسار .. گالوا الجثة بعد گومولها.
وقبل فترة أعادت رحمة رياض أداء أغنية اشتهرت بصوت والدها الراحل رياض أحمد، وفيها دارمي يقول: ظلمة ودرب عاثور ليلة شته وغت .. روحي اشتهت ملگاك وعتتني الك عت.
والحق أنني عجبت لمن حار بحثاً عن معنى "ليلة شته وغت"، فقد فصل ابن منظور في (لسان العرب) في تبيان معاني "الغت"، وكلها تدور في فلك جريان الماء وتدفقه، بدفعات أو مستمراً.
تقول العرب : غَتَّ في الماء يَغُتُّ غَتّاً، يعنون ما بين النَّفَسين من الشُّرْب، وغَتَّ الشاربُ أي تنفس أثناء الشراب.
فإن كان هذا هو المقصود في بيت الدارمي، فإن القائل ربما أراد تصوير تنفس الرياح أثناء زخ المطر، فكأن الأرض تشرب الماء وتتنفس بين شربة وأخرى، وهذا لعمري من أبلغ الاستعارات.
وإذا لم يكن الغت بهذا المعنى، فإنه يذهب إلى دلالة جريان الماء مع صوت وخرير.
قال رسول الله (ص): بينا أنا عند عقر حوضي، أذود الناس عنه لأَهل اليَمن، وإِنه ليَغُتُّ فيه ميزابانِ من الجنة: أَحدُهما من وَرِقٍ، والآخرُ من ذهبٍ، طولُه ما بين مُقامِي إلى عُمانَ.
يثبت ابن منظور هذا المعنى للغت الدال على تتابع تدفق الماء بشكل لا ينقطع.
وبذلك يكون معنى بيت الدارمي أن روح العاشق طلبت المحبوبة وتعنت لها في ليلة شتاء مدلهمة، ليلة غتّ بها المطر غتّاً، وفي طريق غير سالك بسبب عثراته.
هذا ما عنّ لي وأنا أتعرف إلى المعنى الحقيقي لقولهم: شوفته نجوم الظهر، ورحم الله الميداني وابن منظور ورياض أحمد والحاج زاير!.