د. عماد جاسم
لنتفق على تعريف للثقافة؟ ولنقل مثلاً إنها نتاج جمعي، سلوكي وجمالي، عبر حقول الفكر والأدب والفنون بهدف الارتقاء بالمجتمع، يخدمنا هذا التعريف في إطار بحثنا عن دور المؤسسات والأفراد للحد من هيمنة العنف والتخلف، عبر استثمار منظومة الثقافة مخرجاً للأزمات وأملاً في تكافل المجتمع وحيازة فكرة العدالة والمساواة وتمكين المعارف لتجاوز محنة التجهيل والخرافة.
في بلادنا اليوم، ينظر للثقافة عبر (عوينات) متعددة، يكتفي البعض بتصنيفها ترفاً كمالياً أو عرياً أو إلحاداً وهناك من يقع في فخ الخطاب السوداوي، معللاً ذلك بقصدية التخريب لأماكن وملاذات الجمال والفكر، إذاً نحن إزاء محبطات تمنع الطامحين من تحقيق حلم الثقافة المجتمعية وتضعهم في رهانات خاسرة سلفاً، وأجد أن مجتمعنا، بتلاوينه، هو أكثر إيجابية ودافعية من الوسط الثقافي والأكاديمي أو من المؤسسات الثقافية والمشتغلين فيها، وهو ليس اتهاماً إنما قراءة واقعية متبصرة، إذا ما عرفنا أن حديث المثقفين في الغالب ينصب حول الأشخاص والصراعات وفعل المهرجانات والبروتوكولات والتجمعات النخبوية والاتهامات المتبادلة والجاهزة والتنكيل بالآخر والتنافس لأجل الاستحواذ والاقتراب لكسب ود المتنفذين والفاعلين السياسيين على حساب المشروع الثقافي الإنساني الأسمى.
خراب المؤسسات والمباني التي ترعى الثقافة نتاج غياب الرؤية الموحدة لاستعادة ألق التمدن وجوهر الفعل المعرفي الثقافي، إذ اقتصر الإتكاء على مزاج مسؤولين ووزراء على مدى أعوام خلت بالإضافة إلى تعليمات حكومية احترفت القصور والتجهيل، وأطلقت رصاصات الرحمة على آمال النهوض بالبنى الجمالية. وغياب الرؤية لا يعني اتهام الدولة فقط حتى وإن كانت هي الأداة الفاعلة، لكن المجتمعات الحية والمنظمات الراعية لنبض الشارع الثقافي لا بد أن تنهض من كسل الاتهام الجاهز وتمارس دور الرقيب والفعل الجماهيري لأجل إقرار قوانين ضامنة للفئات الضعيفة والترويج لفكرة العدالة.
المنجز الثقافي الفعلي هو الارتقاء بوعي الناس عبر العمل الجمعي بين أوساطهم، واختراقهم في عقر دارهم، للبحث عن أوجاعهم وإحباطهم والتحرك في آليات معرفية وجمالية لتنويرهم، فاستثمار الفنون لتكون أدوات تشاركية في تعميق الحس الذوقي وبالتالي السلوكي، واحد من متطلبات وأحلام لا يمكن أن تنفذها وزارة متخمة بمنتسبين وموظفين يجهلون أو يتجاهلون دورهم التنويري، ولا يمكن أن نراهن فيها على تخصيصات بائسة أو قرارات محدودة التأثير. إنها إرادة المجتمع المدني برفقة المثقفين الفاعلين الذين بشر بهم غرامشي، وهي حتمية نزول الأكاديمي من برج المراقبة والنقد المسلفن والخدر الوظيفي، إلى صحوة ضمير المسؤول الثقافي القابع في أزلية المنصب ومغرياته وحتمياته، إنها ارتفاع صرخة العمل الجمعي الذي نترفع فيه عن أمراضنا المزمنة حيث التنصل عن العداوات الفردية والتسطيح المتعمد للمشكلات، فالثقافة آخر قارب نجاة نحو واحة تأسيس مجتمع متعافٍ ذي هوية وطنية جامعة تقينا التناحر والتجهيل.
*وكيل وزارة الثقافة