الأيديولوجيا: فكر تحول إلى رغبة

آراء 2023/05/17
...

 أ.د عامر حسن فياض


يدين مصطلح الأيديولوجيا بفضل نشأته إلى الفيلسوف الفرنسي (انطوان دو تراسي)، الذي صاغه عام 1795م واستخدمه للدلالة على (علم دراسة الافكار التي تطور العقل الشعبي)، وانتشر المصطلح بعد ذلك وتطور في اتجاهات متضادة كثيرة بفضل إسهامات خطباء الثورة الفرنسية وغيرهم، وما عانته الأيديولوجيا من العداوة بعد أن قال عنها (نابليون بونابرت 1769- 1821م) إنها: حلم عابث وإن الأيديولوجي صياد احلام ووصفها (كارل ماركس 1818- 1883م) أنها: وعي كاذب ووعي مقلوب وعرفها لينين (1870- 1924م) بأنها الفكر الخاص بطبقة، ورأى علم الاجتماع الروسي، ثم الفرنسي جورج غورفتش (1894- 1965م) أنها مسوغ مذهبي أو غير مذهبي لمواقف متخذة من قبل طبقة معينة. وتمثل الأيديولوجيا بوصفها (علم الافكار)، نسقاً فكرياً يتعامل مع ظواهر معينة يخضعها للدراسة، ويعكس في تعامله معها رغبات ومصالح واضعيه، وتنطوي الأيديولوجيا عادة على قدر ملحوظ من المبالغة في تقويم وإبراز تفسيرات وتفضيلات/ تحبيذات تعبر عن إرادة محددة، وتتمتع بأهمية استثنائية على الصعيد العملي، لذلك يميل بعض الباحثين إلى وصف الأيديولوجيا بأنها فكر تكون الممارسة العملية هي غايته الأساسية، لانه فكر يسعى إلى خلق وتحريك شعور ورغبات عند جماعة ما، لتأييد هذه الممارسة والعمل من أجلها.

وتعود الصلة بين الفكر والأيديولوجيا إلى أن الاخيرة هي فكر أيضا لكنها (فكر تحول إلى رغبة)، اي أن الأيديولوجيا فكر تم توظيفه لأغراض عملية وبطريقة تقترن فيها النزعتان التفضيلية والغائية، وبذلك فإن الأيديولوجيا وإن لم تكن طبيعة شخصية ذاتية فهي تعكس تمثلا جماعيا متحيزا وتفضيليا، بقدر ماهو ايضا غائي هادف، فالنازية كأيديولوجيا تفضل العرق، وتستهدف تحقيق السيادة للعرق الآري على غيره من الأعراق، والماركسية كأيديولوجيا تفضل الطبقات الاجتماعية وتستهدف تحقيق السيادة للطبقة العاملة على غيرها من الطبقات. وإذا كانت الأيديولوجيا لا تعتمد دائما، وفي الاحوال كلها على البحث والدراسة والتفسير، فإنها أيضا لا تفتقر إلى ذلك دائما وفي الأحوال كلها فقد تكون هكذا مرة وهكذا مرة اخرى، وبين بين في حالات اخرى، لكنها في الغالب تستهدف خلق شعور وحماس جماعيين، يحركهما السعي لتحقيق أهداف تلك الأيديولوجيا، والاستعداد لتقديم التضحيات اللازمة لتحقيق تلك الأهداف. ولعل قوة الأيديولوجيا، تكمن في الشعور والحماس الجمعيين اللذين تسعى لخلقهما وتحريكهما في ميدان الممارسة، لتكون بذلك المصطلح الاقرب في دلالته إلى مصطلح المذهب، بحكم ما يتميز به كلاهما من طابع عملي، واستناد إلى احكام قيمية معيارية، واستهداف ممارسة أنشطة عملية تطبيقية، ترمي إلى المحافظة على الواقع أو تغييره وإعادة تشكيله، وفقاً للأحكام القيمية المعيارية التي انطلقت منها. بيد أن الأيديولوجيا، وإن كانت تشترك مع الفكر في طابعهما التأملي العقلي، لكنها تختلف وتتميز عن الفكر في أنها تأمل عقلي مكرس بشكل أول واساس للاعتبارات العملية

 التعبوية. 

وعلى الرغم من شرعية، بل وضرورة المقارنة والتمييز بين الفكر والمفاهيم المقاربة مثل النظرية والمذهب والفلسفة فإن الحدود الفاصلة بينه وبين هذه المفاهيم، ليست حادة ولا حتى دقيقة ولا واضحة تماماً، وهو ما يجعل منها مفاهيم متقاربة وحتى متناظرة، والعلة الاولى والأساس في ذلك، أنها جمعياً تدخل في إطار الفكر، وتقع ضمن حدوده، وتمثل شكلاً من اشكاله، بحكم اشتراكها كلها معه في كونها تأملات عقلية مجردة، وإن كان بعضها مميزاً عن غيره منها بفعل مستوى تنظيمه أو فرضياته أو مدى توجهة إلى العقل الجمعي وصلته بالممارسة والغائية العملية. وإذ يعني ذلك أن النظرية والمذهب والفلسفة والأيديولوجيا، أشكال وأنواع مختلفة من الفكر، وأنها كلها تدخل ضمن اهتماماته، فسيكون بالإمكان القول باتفاق هذه المفاهيم كلها في النهاية على الدلالة على نشاط تأملي عقلي مجرد، واشتراكها كلها في الاهتمام بالظاهرة المجتمعية الانسانية. وبفعل هذين العنصرين (عنصر التأمل العقلي المجرد وعنصر الاهتمام بالظاهرة المجتمعية الإنسانية)، تقترب هذه المفاهيم من مفهوم الفكر، مما يتيح للأخير فرصة احتضانها جميعاً لتكون أجزاء منه.