الدستور والقوانين، وضعتْ لأجل غاية واحدة وهي: إقامة دولة قويَّة تحمي حقوق المواطنين، ودولة تحكمها المؤسسات
وليس الأفراد.
وإنَّ تلك الغاية لا تتحقق إلا من خلال اتباع تلك النصوص التي رسمت طريقاً لتحقيق تلك الغاية. ولكنَّ، ثمة نصوصاً وضعت في ظروف معينة أريد لها أنْ تتكيف مع تلك الظروف وتعالج المشاكل والأمور التي تشغل الرأي العام. وبمجرد انتهاء هذه الظروف تصبح النصوص التي وضعت من أجلها عبئاً وهماً يؤرق القائمين على الدولة، خصوصاً إذا كانت آلية تغيير تلك النصوص معقدة، إذ إنها أي النصوص، ستعرقل حتماً مسيرة بناء الدولة. إنَّ في داخل كل نص دستوري نصاً آخرَ، نصاً لا ينظر الى السطح، وكيف هو الطريق المرسوم له، للوصول الى خدمة المجتمع والمواطن، بل يسير في القاع، حيث لا حدود ولا شكلية ولا تعقيد، حتى لو أراد ذلك النص أنْ يغير مساره أو يختفي فلن يجد مانعاً يمنعه. وهذا النص الخفي هو الذي يمثل روح الدستور وتلك الروح لا أحد يستطيع الإمساك بها سوى جهة واحدة في الدولة وهي: القضاء، السلطة القضائية ممثلة بالمحكمة الاتحادية هي الجهة الوحيدة القادرة على الوصول الى روح الدستور بما تملكه من سلطة دستورية وقانونية لا يمكن لأي جهة أنْ تعترض أو تقرر خلاف ما تراه تلك المحكمة. وهذا يأتي نتيجة لبروز مشاكل كثيرة في الدستور، ولعلَّ مشكلة الآلية التي وضعت لتعديله هي أهم وأعقد مشكلة جعلت المشرِّع العراقي في حيرة حقيقية، إذ هنالك حاجة كبيرة لتعديل الدستور وإعادة النظر في الكثير من فقراته التي شرعت في لحظة تاريخية حرجة مر بها البلد، واليوم وبعد مضي عقد ونصف على سريان الدستور وتغير الأوضاع السياسيَّة والأمنيَّة للبلد وظهور مشاكل من خلال تطبيق تلك النصوص أصبح التعديل ضرورة ملحة لديمومة عمل مؤسسات الدولة ولمسايرة الأوضاع الجديدة. ولكنَّ آلية التعديل تقف عائقاً أمام تلك التطلعات. فالدستور العراقي يصنف بالجامد، أي غير القابل للتعديل..
لذا لا بدَّ من اللجوء الى الخيار البديل الذي هو موجود في رحم الدستور وليس ببعيد عنه، إنه روح الدستور التي تسعى لخلق كيان سياسي واجتماعي يساير التطور في مختلف المجالات. والمحكمة الاتحادية هي الوحيدة التي يمكنها أنْ تمد يدها لتخرج تلك الروح من قاع الدستور وتستبدله بالقشرة الخارجية التي لا تقبل ان تتنحى، رغم عدم جدواها وعدم قدرتها على تحقيق الغاية التي شرع من
أجلها الدستور.
إنَّ روح الدستور تعني تجاوز كل الشكليات الموجودة في النص الدستوري والوصول الى الهدف مباشرة. المحكمة الاتحادية يمكنها بعد ان تتوفر إرادة حقيقية لدى الشعب والمنظمات غير الحكومية الساعية للتغير أنْ تصدر قرارات تكشف فيها عن مطلب المشروع ومقصده الحقيقي بعيداً عن الشروط الموجودة في النص الدستوري، فهي تحتاج الى من يقيم دعاوى أمامها طالباً تفسير نص دستوري يحتوي على عبارات غامضة أو تحتمل التأويل وهي كثيرة في الدستور، عندها تتولى المحكمة تفسيرها وفقاً للمصلحة العليا للشعب، وهي عالمة وعارفة بتلك المصلحة حتما. وبما أنَّ قراراتها ملزمة للجميع فلا أحد يمكنه الاعتراض على قراراتها عندها فقط، يمكن تعديل الدستور ومن قبل جهة رصينة وهي المحكمة الاتحادية التي وجدت أصلاً بإرادة شعبية، ما يضفي عليها مزيداً من الشرعيَّة.