فارس حامد عبد الكريم
يسود اعتقاد عام ان الدين هو مُجرد مبلغ من المال للدائن في ذمة مدينه، وهذا خطأ جزئي، لأن حقيقة الدين (الالتزام) أوسع. شغلت المديونية البشرية منذ القدم، فقد أوجبت شريعة حمورابي (1792 - 1750 ق.م) على المتعاقدين ان ينظموا بها عقوداً تكتب على ألواح من الخزف، وكانت المحاكم لا تقبل النظر في دعاوى الدين الا إذا كانت العقود مصدقة من قبل شهود.
وكما اهتم حمورابي بحماية حق الدائن من الضياع اهتم بالمقابل بحماية المدين من تعسف الدائن وإستغلاله، خاصة إذا تقاضى فائدة باهظة عن دينه أو تسببت ظروف قاهرة في عدم وفاء المدين.
بينما أجاز القانون الروماني القديم للدائنين قتل المدين المُعسر واقتسام اشلائه، ثم صححت لاحقاً إلى إجبار المدين وعائلته على العمل كعبيد عند الدائن لفترة معينة توازي المبلغ.
ومع تطور الفكر الإنساني تغيرت الأحكام إلى أشكال أكثر تمدناً بفضل نشاط القضاة الرومان (البريتور) بإتباع ما عُرف بالحيلة القانونية وايجاد قانون الشعوب وتحول الوفاء من جسد المدين إلى ذمته
المالية.... ويعتبر القانون الروماني الأب الشرعي للقوانين المدنية الحديثة في النظام اللاتيني السائد.
ونظمت القوانين المدنية الحديثة نظرية الالتزام وعرفت الدين أو الالتزام بأنه؛رابطة قانونية بين شخصين تخول لأحدهما، وهو الدائن، أن يقتضي من الآخر، وهو المدين، أداء ماليا معينا، وقد يتمثل هذا الأداء المالي في التزام المدين بإعطاء شيء أو نقله أو بأداء عمل، أو بالامتناع عن أداء عمل.
الالتزام بإعطاء شيء: وهو التزام بإنشاء حق عيني أو بنقله، فقد يكون الدين هو الالتزام بنقل ملكية شيء معين، كالتزام البائع بنقل ملكية المبيع إلى المشتري، وقد يكون الدين مبلغا من النقود اقترضه المدين يلتزم بتسديده.
الالتزام بالقيام بعمل: ومحل الدين قيام المدين بعمل معين لحساب الدائن، كالتزام الطبيب بمعالجة المريض أو المهندس والمقاول لصالح رب العمل. وقد يكون الدين عملاً قانونياً، كالتزام الوكيل بابرام تصرف قانوني نيابة عن الأصيل ولحسابه.
- الالتزام بالامتناع عن عمل: ومحل الدين عبارة عن امتناع عن عمل لصالح الدائن كالامتناع عن المنافسة التجارية، كمن اشترى محلاً تجارياً واشترط على البائع عدم منافسته بذات الاسم والعلامة التجارية.
وعرّف العلماء المسلمون الدَّيْن أو الاستدانة بِـ: «طَلَبُ أَخْذِ مَالٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَغْل الذِّمَّةِ، سَوَاء كانَ عِوَضًا فِي مَبِيعٍ أو سَلَمٍ أو إِجَارَةٍ، أو قَرْضًا، أو ضَمَانَ مُتْلَفٍ»،
ولما ﻛﺎنت أﺳﻤﻰ ﻣﻘﺎﺻﺪ الإسلام ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻣﺼﺎﻟﺢ المكلفين ودفع الضرر ﻋﻨﻬﻢ ولحاجتهم إلى الإستدانة ﻓﻘﺪ أﺑﺎﺣﻬﺎ، قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) البقرة:282
وبموجب الشريعة يعتبر عدم تسديد الدين ظلماً وعدواناً، اذا كان المدين ميسور الحال اما اذا كان المدين معسراً فنظرة إلى ميسرة
لقوله تعالى: «وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ..» البقرة - 280.
واعلم أن مَن مات مَدينًا فهو على خطرٍ عظيم؛ ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مَن فارق الروحُ الجسدَ وهو بريءٌ مِن ثلاث دخل الجنة: الكِبْر، والدَّيْن، والغلول)
والغلول: هو السرقة مِن المال العامِّ.
وقال النبي (ص) محذراً من التساهل في حقوق الناس: من كانت عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحللها من صاحبه من قبل أن يؤخذ منه، حين لا يكون دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه. وبين (ص) أن الدين لا يغفر مهما بلغ صلاح
المؤمن. والعلّة في التشديد في الدين إن ذنوب حقوق العباد مبنية على المشاحة والمطالبة في الآخرة، ولا يكفي في تطهيرها مجرد التوبة، خلافا للذنوب التي بين العبد وربه، فإنها مهما عظمت مبنية على المسامحة والعفو والغفران إذا وردت عليها نور التوبة أزالت ظلمتها، ونار الخشية أحرقتها ولم تبق لها أثرا. ولا شك في ان إصدار شيك من دون رصيد غير مغطى بموعده يُعَدُّ من باب أكل أموال الناس بالباطل قال تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ» البقرة الآية 188.
ولا تجوز الشريعة للموظف استخدام الأجهزة والقرطاسية الخاصة بالإدارة في أموره الشخصية فإن استخدمها بخلاف مقتضيات الأنظمة أو العرف، فإنه يكون مديناً للدولة ويضمن مقدار ما استهلكه منها.
*النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الاتحادية.