علي المرهج
لا يُمكن أن تكون قادراً على الكتابة من دون قراءة، وهذا أمر بيّن وواضح، فكل من تمكن من القراءة أجاد الكتابة بدرجات، فهناك قراءة تتعلم بها كتابة الحروف، وهناك قراءة تتعلم بها نسخ المقروء واعادة كتابته ثم حفظه، كما هو حالنا حينما كُنا تلاميذ في الابتدائية ونتعلم نطق الحرف (الألف بائية)، ومن ثم (الحروف (الأبجدية)، وكل هذه هي وسائل في القراءة لتعليم الكتابة.
أن تتعلم الكتابة فتلك بداية طريق الألف ميل الذي يبدأ بخطوة، وخطوتك الأولى هي اتقان كتابة الحروف ورسمها، بل واتقان نطقها قبل كتابتها، ولكن الحروف لوحدها لا تُشكل جملاً، ولا تجعلك قادراً على كتابة جملة متماسكة ذات معنى، لذا اختلف التربويون في مناهج التعليم، فمنهم من يقول إن التلميذ غير معني بمعرفة قراءة الحرف أو كتابته، بل معني بمعرفة الجمل ودلالتها، فاحتار فلاسفة التربية وعلماؤها في أي الطريقتين أفضل، فظهرت لنا مدرسة «الجشتطالت» التي أكدت أن التعلم للتلميذ يكون وفق معرفة الكل أو الصورة الكلية، فلا تقل للتلميذ إن كلمة (موز) مثلاً، هي جمع حرف الميم مع الواو مع الزاي، فذلك لا يبني عنده الصورة الكلية لفاكهة يعرفها من دون تقسيم لحروفها نطقاً وجمعها في ما
بعد.
فالتلميذ يعرف الموز لأنه يأكله مرة واحدة لا حرفاً حرفاً.
إذن فالمعرفة القرائية في اعتماد التوصيل الحروفي ستُمكن الطالب من تجميع الحروف وصفها مع بعضها، ولكنها لا تكُون ولا تؤسس له قدرة على فهم المعنى، فادراكك لحروف كلمة ما لا يعني أنك أدركت الكلمة بمعناها ومبناها. لا أخوض معكم في التفضيل بين المدرسة الحروفية (التبعيضية) والمدرسة الكلية في التعليم، ودفاع جيلنا القديم عن قيمة التعليم في زمننا، وتميزنا كجيل عن جيل أولادنا.
لكنني أقول إن من تميز من جيلنا في الكتابة بعد تعلم القراءة إنما هو تمكن من جمع الأجزاء في الكل، ليُنتج لنا نصاً مكتوباً بوعي الكل والجزء، وهؤلاء هم قلَة، ولكن بقياس تميز الأجيال ، ولا عليَّ بالتحقيب الجيلي لمن يقول بتفوق القديم على الجديد ليتغنى بالقديم فيُطلق عليه تسمية «الزمن الجميل»، الذي أظنه من باب جماليات الذاكرة وعشق الإنسان لماضيه ورغبته للعيش فيه، وإلا أسألكم بالله، نحن اليوم نعيش أكبر تحديات الحياة في «زمن الكورونا»، ماذا نفعل لو لم تكن لدينا وسائل تواصل اجتماعي، وأنترنت، تفتح الغوغل فينفتح لك صندوق الدنيا؟!، فمن أنتج كل هذا الذي نحن فيه، ولو انقطع ساعة لوجدت العائلة تتحارب وتتصارع و(تضرب أخماساً بأسداس» وتجد القلق يُغير ملامح وجوه الجميع فيها!، أليست هذه من صناعة جيل الشباب الذي نستهين به ونُقلل من قيمته؟!.
لا تنظر لعالم المعرفة والتربية وفق علاقتك بأبنائك الذين قصروا في متابعتهم لدروسهم، أو بقيوا مثلي ومثلك (حرفيين) (تقليديين) (اتباعيين)، وانظر للمشهد بكليته، وستجد أننا من غير هؤلاء «شباب العالم الرقمي» سنكون خارج تاريخ الوجود المعاصر.
من هبات العالم الرقمي أنه اختصر الزمن وقلل المسافات والفروق بين المجتمعات والطبقات، فهي معرفة مُتاحة للجميع، لا يتباهى بها شخص على آخر من طبقة أخرى تتمايز عنه اقتصادياً أو سياسياً، إلا في النزر اليسير منها.
لقد أصبحت الصورة هي مصدر المعرفة في العالم الرقمي، بل تجاوزت العالم الذي نعيش فيه لتصنع لنا عواما قيل عنها إنها افتراضية، ولكنها تتحكم في بناء تصوراتنا للحقيقة، فلم تعد الحقيقة هي مطابقة التصور للواقع، وإنما تكمن في قدرة الإنسان على خلق عوالم جديدة في مجال العلوم والتقنية، وحتى في مجال التغيير الاجتماعي والسياسي، ولا أدل على ذلك ما أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي من تغيير سياسي واجتماعي في العالم العربي.
لا ننكر أن زمن الصورة ساعد على نشر ثقافة استهلاكية، مكنت الكثير من التافهين والسذج على أن يحضروا في فضاء الصورة، هذا ويساعدوا في تأكيد ما ذهب إليه (ألان دونو) في كتابه «نظام التفاهة»، هذا النظام الذي سيطر فيه الاقتصاد القائم على الربح السريع الذي سيطر على جل مفاصل الحياة بعد أن هيمنة الشركات متعدية أو متعددة الجنسية على حركة رأس المال في العالم، وامتلاك تقنية الثورة المعلمواتية، وعملت على تحويل الفن والثقافة إلى صناعة يسيطر عليها فنانون ومثقفون وإعلاميون من الدرجة العاشرة من الذين يلعبون على تحريك عواطف الجمهور وخداعه، لتحويل مسارات التفكير فيه بحسب إرادة ملاك رأس المال.
في المقابل مكنت هذه الثورة المعلوماتية الشباب من معرفة اللغات والتواصل الحضاري وتقنيات الحاسوب ووسائل التواصل العلمي والاجتماعي في ما بينهم، عبر مشاركة بعضهم في الألعاب أو في تقنيات التعليم الحديثة في العصر الرقمي، التي جعلتنا نتجاوز أزمة كورنا عبر التعليم الألكتروني.