د.عبد الخالق حسن
تستعد بغداد بعد يومين للعودة إلى سنة 1923، والاستماع إلى صرخات طفلةٍ سيكون لها شأنٌ كبيرٌ بعد عشرين عاماً من ولادتها أو تزيد قليلا.
تلك الطفلة التي تفرعت من شجرتين كانت كل شجرة فيهما تشرب من ينابيع الأدب والثقافة والسياسة. وهذه الخلطة، كانت سمةً لازمةً للكثير من الأسر العراقية التي أنجبت الكثير من المتفردين.
جاءت نازك الملائكة إلى الدنيا مع بدايات نشوء الدولة العراقية الحديثة. وهي مرحلة كانت حافلةً بالأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية. وفضلاً عن أنَّها كانت مرحلة انتقاليةً بين نهجين ثقافيين مختلفين، أحدهما يمثل الامتداد التقليدي الذي ترسخ طوال سنوات السيطرة العثمانية على العراق، حيث التقاليد والمراسيم ترسم كل تفاصيل الحياة، ونهج آخر ساقته رياح التغيير البريطانية، مثلما تسوق الرياح الغيم، ليمطر لاحقاً على أرض العراق بتقاليد ومفاهيم وذوق فارق القديم، وظل يجاهد كي يستطيع مواجهة التحولات الداخلية والخارجية، التي انتهت بالعالم إلى حرب عالمية مدمرة. وسط كل هذا، كانت شجرة نازك الملائكة تنمو شيئاً فشيئاً، حتى اذا ما تدفقت السنوات بعد بلوغها العشرين، أمسكت نازك الملائكة بيد الشعر العربي، وقادته إلى كونٍ جديد، بعدما جعلته يتخلى عن زيه الرسمي الذي التصق به منذ ولادته. انفجر الشعر على يديها، وسار بعيداً عن حدود رسمتها النظريات وظروف النشأة القديمة. ولو كان للشعر لسانٌ لنطق بالشكر لنازك، ومعها السياب طبعاً، على تلك المغامرة الأنيقة التي منحت الشعر روحاً جديدةً، ومحطاتِ سفرٍ لم يعرفها من قبل.
لم يكن ما صنعته نازك في تاريخنا الأدبي حدثاً سهلاً أو اعتيادياً، بل إنَّ الذي فعلته نازك يشبه تماماً الصعقة الكهربائية، التي يعالج بها من احتشت عضلة قلبه. والأجمل في كل هذا، أنَّ هذا التحول الذوقي والأدبي قد حدث على يد امرأةٍ، في الوقت الذي كانت فيه الكثير من النساء، في البلاد العربية ما زالت تعاني من قلة التقدير وعدم الاعتراف.
يستعيد العراق اليوم ذكرى نازك المئوية، ليواصل الاعتراف بقيمة ما فعلته نازك الملائكة في تاريخنا الأدبي والثقافي. استعادة تستحضر أطياف بنتٍ أضرمت شعلة التجديد في جسد الشعر العربي.
وأعادت له النضارة والبهجة والشباب، بعد سنوات طويلة من الشيخوخة القسرية.