التأثير المتبادل بين المدينة والوافدين

آراء 2023/05/27
...

 د. عبد الواحد مشعل

 تعد اشكالية التكيف الثقافي للنازحين الريفيين المدينة العراقية من الاشكاليات الجدلية، التي اثارت اهتمام الباحثين في مجال الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع على مدى قرن من الزمان، نظرا لما تمثله من اختلال في اصل القاعدة القائلة إن المدن الحديثة تستوعب الريفيين، وتعمل على ادماجهم في نسيجها الاجتماعي، حتى يصبحوا بعد جيلين أو اكثر، حضريين انقطعوا عن اسلوب حياتهم التقليدي في مجتمعهم الاصلي، كما حصل في أوروبا

 إلا أن الأمر في المدينة العراقية يختلف تماما عن ذلك لاسباب اجتماعية وتنظيمية واقتصادية، فلا يزال النازحون الريفيون إلى المدن العراقيين، ومنها مدينة بغداد مرتبطين ثقافيا باصولهم الريفية، مع بعض الاستثناءات التي تمكنت من الاندماج في النسيج الثقافي للمدينة، اما الاغلبية فلا يزال اسلوب حياتهم وقناعاتهم وافكارهم يهيمن على سياق المنظومة الثقافية الريفية، وان ارتدوا ازياء المدينة، وشيدوا المساكن الحديثة، وتقلدوا الوظائف المختلفة، حتى أصبح تاثيرهم في المدينة واضحا في السنوات القليلة الماضية بعد ضعف سلطان القانون، واتسعت الأعراف العشائرية مع انزواء سكان المدن الحضريين في منازلهم أو في نشاطاتهم المختلفة، مستنكرين لتلك الاعراف بشكل واضح وجلي، واذا بحثنا في اسباب ذلك بالمقارنة مع الهجرات الريفية في أوروبا تجاه المدن، نجد أبرز اسباب ذلك يكمن في ان المدينة الاوربية وما توجد فيها من مصانع بعد الثورة الصناعي، ساعدت الريفيين على الاندماج في نسيجها الثقافي، وحقتت نجاحا كبيرا في هذا المجال، اما المدينة العراقية فقد فشلت في ذلك لافتقارها للحركة الصناعية كما هي في أوروبا، حتى اصبحت مسألة التكيف الثقافي للنازحين الريفيين في المدن من المسائل الحيوية، التي شغلت بال سكان المدن العراقية الاصليين، وسببت لهم متاعب كثيرة عندما طغت الاعراف الريفية على المدينة، وامتدت إلى حياتهم الشخصية، لا سيما بعد 2003 تحت وطأة الظروف الامنية والاقتصادية والسياسية القلقة، لذا فان التكيف الثقافي من المسائل المعقدة في المرحلة الحالية، وبخاصة بعد تكسر الحدود بين ضواحي المدينة الحضرية الراقية والمناطق الشعبية، ما اثر في البنية الشخصية الحضرية، ثقافةً ولهجةً وعادات وانماطا سلوكية مختلفة، ما جعل ذلك يحتل اهمية كبيرة لدى مخططي التنمية حضرية القادمة، لما لذلك من تاثير مباشر في تحقيق النتائج المتوخاة منها.

وتبقى جدلية من يؤثر في من؟

تحتل أهمية كبيرة في الاوساط العلمية والتخطيطية،ولكي يكون الامر موضوعيا فالمشاهدات اليومية تؤشر إلى أن الثقافة الريفية باتت اليوم تؤثر في المدينة بشكل واضح، وهو على عكس من المتوقع، الا ان ثمة تطور اخر قد يفرض نفسه على سكان المدينة العراقية يتعلق بثقافة الاجيال الجديدة وانخراطها في اهتمامات مختلفة تماما على اهتمام النازحين الريفيين وسكان المدن الاصليين معا، ألا وهو التعامل مع الوسائل الاتصالية الحديثة، وما عملت اليوم، وما ستعمل في المستقبل على مدى ثلاثة أو اربعة اجيال قادمة من بلورة ثقافة تختلف تماما عن ثقافة سكان المدينة انفسهم، وهي العيش في تفاصبل الحاضر، والنظر إلى المستقبل غير مهتمين كثيرا بالماضي وتراثيته الثقافية، شاقين طريقهم على وفق قناعات جديدة، وهي ظاهرة ستكون لها صفة الالزام على الباحث العلمي لدراستها، كما ذهب إلى ذلك عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم، من أن الظاهرة لها صفة الازام على الباحث، وفي هذه النقطة تكن ضالتنا في كشف المتغيرات الثقافية والاقتصادية والنفسية المؤثرة فيها الظاهرة بكامها.