مملكة إيبلا علامة فارقة في الحضارة السورية
سريعة سليم حديد
قال عالم الآثار الإيطالي باولو ماتييه: «سورية كرستالة العالم، في كل لحظة من لحظات التاريخ تشع منها حضارة ما».
هذا القول لم يأت عن عبث لأن الإشعاع الذي ولده اكتشاف مملكة «إيبلا» كان إشعاعاً لافتاً ومدهشاً، وخاصة أنه وضع العالم أمام حقائق تاريخية كانت غامضة للغاية. فمن مملكة إيبلا خرجت أكبر مكتبة توضح الدور الكبير لمعرفة تنسيق وجمع وتدوين المعلومات ليس على الورق، بل على الحجر. من هنا يجدر بنا أن نلقي شعاعاً ما على تلك المملكة العريقة التي صنفت على لائحة التراث العالمي بجدارة.
موقع إيبلا
تقع مملكة إيبلا في سورية في المنطقة الواقعة إلى الجنوب الغربي من مدينة حلب، في قمة تل مرديخ، وتبعد عنها حوالي 50 كم، وقد ذُكرت في العديد من الأماكن التاريخية القديمة مثل الوثائق المسمارية ونصوص سلالة أور الثالثة، كذلك في نصوص تعود للعصر الآشوري القديم، ومع ذلك ظلت مدينة «إيبلا» مجهولة ومنسية بالنسبة لموقعها الجغرافي على الرغم من أهميتها، ودورها الحضاري في المنطقة.
اكتشاف المملكة
في عام 1955 حدثت المصادفة الرائعة التي كشفت الغطاء عن أهم ممالك التاريخ في العالم. وبينما أحد الفلاحين يحفر في أرضه، ضرب معوله في صخرة قوية، وراح يتابع الحفر، فظهر له حوض منحوت ومزين على أحد جوانبه بأشكال نافرة، وقد حُفرت صور عدة لرجال ذوي لحى، وعلى الجانب المقابل صور لسباع فاغرة الأفواه. وعلى إثر هذا الاكتشاف توالت حملات التنقيب الأثري في المنطقة، فتبين أن الموقع هو موقع مملكة «إيبلا» التي كانت منسية لسنوات طويلة.
لقد ساد اعتقاد بين المؤرخين أن حضارتي بين النهرين ووادي النيل هما الأقدم بالنسبة لباقي الاكتشافات، ولكن بعد اكتشاف مملكة «إيبلا» تبين أنها أقدم منهما وذات حضارة عريقة، بما تمتلك من رقم طينية ومبان لا مثيل لها، ولغة خاصة بها، إضافة إلى قصورها الملكية ومقابرها والزخارف ذات المدلولات التاريخية التي أثبتت ارتباطها بالحضارات المجاورة لها.
شكل المملكة
جاء شكل المملكة من الخارج على هيئة شبه منحرف، يحكمه سور ضخم، ويضم الأحياء الشعبية والتل المركزي، وهو المقر الرسمي للسلطات، والحي الملكي الذي بني فوق أبنية العامة من الشعب، والأجمل من هذا الهيئة التي بنيت عليها الشوارع، فقد جاءت على شكل شعاع الشمس التي مركزها الحي الملكي ونقاط التقائها بوابات المملكة.
أهم الاكتشافات
إن من أهم الاكتشافات التي أوضحت طبيعة حياة الإنسان السوري القديم من حيث الجوانب المختلفة بما فيها السياسية والدينية والثقافية وغيرها، هو اكتشاف مكتبة القصر الملكي في «إيبلا». فقد قام الملكُ الأكادي «نارام سين» بإضرام النار في المملكة، ولكن المفارقة كانت مدهشة، فتلك النار التي أشعلها شوت الرقم المصنوعة من الطين، هذا مما جعلها تعيش عمراً أطول، والأجمل من هذا أن تلك الرقم كانت بلغة خاصة بمملكة «إيبلا». ومع ذلك لم يتم التأكد من أنّ الموقعَ هو نفسُه موقع «إيبلا» القديمة وبقيت هذه المملكةُ مجهولةً إلى عام 1968 عندما عُثِر على جذع تمثال من الحجر البازلتي يحمل نقشاً أكّادياً مؤلفاً من سطور عدة، وتذكر الكتابة أن التمثال هو ملك (إيبلا)، وقد ورد اسمها مرتين في النقش، هذا مما أثبت للباحثين أنهم أمام مملكة «إيبلا» التي تسمى المملكة المنسية المنخفضة.
أهمية المكتبة
وجد الباحثون أنّ سجلّات المكتبة تحتوي على موضوعات سياسية وثقافية واقتصادية وقانونية وفنية وعلمية ودينية ونصوص إدارية، فهي تمتلك أرشيفاً منظماً ومنسقاً بشكل جيد، فقد بلغ عدد الرقم حوالي سبعة عشر ألف وخمسمئة رقم طيني موضوعة على رفوف، وكل رف مخصص لموضوع معين، فالصلوات والأدعية كانت على ألواح مستديرة صغيرة، والأساطير على ألواح مستطيلة، والوثائق التاريخية على ألواح متوسطة ومستديرة أو مربعة بزوايا مستديرة.
ومن أهم الاكتشافات أيضاً القصر الملكي الشمالي والقصر الملكي الجنوبي، إضافة إلى المعابد مثل: معبد عشتار ومعبد رشف ومعبد شمش إضافة إلى اكتشاف المقابر الملكية التي يعود تاريخها إلى الفترة الثانية من عصر البرونز الوسيط، كذلك اكتشف السور والابواب الأربعة وهي بوابة دمشق وحلب والفرات وبوابة السهوب
إن الفترة الواقعة بين 2250 ــ 2400 ق.م كانت فترة ازدهار مملكة «إيبلا»، فهناك أربعة أحياء مرتبطة بأربع بوابات، وكانت المملكة محاطة بسور دائري قوي، وقد حصن بأبراج مربعة بارزة حسب التقاليد المعمارية التي كانت سائدة في الألف الثالث قبل الميلاد.
القصر الملكي الشمالي
لقد تم اكتشاف الجزء الشمالي منه، يعود بناؤه الى الالف الثاني ق.م وقد اعتقد أنه كان مقراً للملك، وفي وسط القصر باحة مستطيلة الشكل، تحيط بها غرف كبيرة مستطيلة أيضاً.
القصر الجنوبي
يقع هذا القصر جنوب المملكة، وتم العثور فيه على غرف كبيرة تحوي أحواضاً ربما كانت تستخدم كإسطبلات للحيوانات، أو مدابغ للجلود. ومن أهم المعابد التي اكتشفت:
معبد عشتار
المعبد يخص عبادة الآلهة عشتار آلهة الحب والجمال والحرب والتضحية التي كانت تعرف في حضارات مختلفة في بلاد الرافدين ونواحيها. وقد تعددت أسماؤها من منطقة إلى أخرى، وكان لها دور مهم ومعقد في ديانات الشرق الأدنى القديم وحضاراته. فمن البديهي أن تقيم «إيبلا» معبداً خاصاً بعشتار مثلها مثل أية مملكة أخرى.
معبد رشف
ــ هو معبد مخصص لعبادة الإله رشف، وهو إله العالم السفلي والطاعون والحرب، وقد عثر في المعبد على حوض نحت عليه صورة وليمة للكهنة في المنطقة، وعلى الجانب الآخر هناك نحت لعدد من المحاربين، ويعبر عن الطقوس الدينية التي كانت تمارس في معبد الإله رشف، ويقع المعبد في الحي الرابع المواجه للباب الجنوبي للمدينة.
وإله رشف أو رشب هو إله كنعاني عبد في سورية وفلسطين على أنه إله الحرب وهو على هيئة رجل يحمل درعاً، وكذلك عُرفت عبادته في مصر، فقد وجدت صورته على العديد من الآثارات. وكان يعتقد أن له صلة كبيرة بالطاعون والأوبئة في بلد ما بين النهرين، وفي سورية كان يعرف بإله الزوابع.
معبد شمش
يقع هذا المعبد شمال المنطقة المنخفضة وشرق معبد عشتار، وهو مكرس لإله الشمس شمش، ويتألف من هيكل طويل ذي تقسيمات خاصة. وشمش هو اسم كان يطلق على إله الشمس عند البابليين والآشوريين، كما ذكر في قوانين حمورابي، وله وثيقة تظهره وهو يتسلم القوانين من شمش.
المقابر الملكية
تم الكشف عن أربعة مدافن أرضية في المنطقة الوسطى للقصر، وهي عبارة عن كهوف تحت الأرض، وهناك مدفن أطلق عليه مدفن سيد الماعز، أما المدفن الغربي فقد أطلق عليه مدفن الخزانات، كذلك هناك مدفن الأميرات، وهو من أقدم المدافن، ويقع في الجهة الجنوبية، ويعود تاريخه إلى 1800 ق م.
سور إيبلا وأبوابها الأربعة
يبدو السور المحيط بالمملكة سور قوي عريض في القاعدة ويضيق رويداً رويداً كلما اتجه نحو الأعلى، وهو مبني من الطين والحجارة مثله مثل أي سور في المنطقة، ويتميز بأنه عريض إلى حد ما من الأعلى، وفد بني في السور العديد من الأبراج للمراقبة وصد الهجمات التي تتعرض لها المملكة.
تم الكشف عن البوابة الجنوبية الغربية وهي تحت اسم بوابة دمشق، وهي عبارة عن أبواب عدة متتالية، ويخصص غرف للحرس في جوارها، وتتألف البوابة من قسمين رئيسيين داخلي وخارجي تفصل بينهما باحة شكلها شبه منحرف. وتعتبر بوابة دمشق هي النموذج الأفضل في مملكة «إيبلا». أما بوابة حلب فتعرف بالبوابة الشمالية الغربية المتجهة صوب حلب، وتعرف البوابة الشمالية الشرقية ببوابة الفرات، أما البوابة الجنوبية الشرقية فعرفت ببوابة السهوب.
إيبلا من الناحية السياسية
كانت مملكة «إيبلا» مزدهرة، يحكمها الملك، وقد ورد في النصوص الملكية أسماء ملوك عدة حكموا «إيبلا»، منهم: إغريش ودامو وأر وإبريوم.. وهناك مجلس يدعى بمجلس الشيوخ، مهمته مراقبة ممارسات الملك للسلطة والخوض في مجالات الاستشارة.. وكان له أثر بارز في إدارة شؤون الدولة، كما يظهر أوضحت النصوص القديمة.
أما من الناحية الاقتصادية فكانت لمصانع الغزل والنسيج الدور الأكبر في المملكة، إضافة إلى اتباع الدورات الزراعية وفق طقوسها وعائدات المملكة.
ختاماً نقول: يحق للملكة «إيبلا» أن تتصدر لائحة التصنيف العالمي للتراث في منظمة اليونسكو لما تحتويه من أهمية تاريخية بالغة، وخاصة أنها غيرت وجه التاريخ، وفتحت للعالم آفقاً جديدة للالتفات إلى أهمية الحضارة السورية الموغلة في القدم.