رعد أطياف
ونحن نستقبل هذا العصر الجامح: عصر التكنولوجيا الفائقة، على المرء أن يتحلّى برباطة الجأش، ذلك أنه أصبح لعامّة الناس منصّاتهم الخاصة للتعبيرعن آرائهم بكل حرية، ويا ليتها كانت كذلك! أنهم يلوكون مفاهيمَ بالغة الحسّاسية مثل "الحرية"، و"النقد" ونحو ذلك.
لكنهم يستخدمونها كردود أفعال تعاني من حمولة ثقيلة مُعَبَّأة بالضغائن والأحقاد.
لا ينظرون إلى هذه المفاهيم، إلّا من حيث كونها أسلحة سامّة لتصفية حسابات ضد أفراد لا يشبهونهم! محاولين الانتقام منهم بطرق ملتوية.
الحرية، والنقد، هما أفعال وليسا ردود أفعال، أنهما فعل اقتدار يسموان على الدونية والضغائن والمشاعر السامّة.
الاقتدار صنيعة وإبداع ومكابدة عسيرة ومواجهة شجاعة لمختلف صنوف الألم، لكي يضفروا في نهاية المطاف بوجودهم الخاص.
لا يكون المرء حرّاً وناقداً وواضحاً ومضيئاً، إلا من حيث كونه مقتدراً، وهذا الأخير فعل جسور لا يقدم عليه إلا من تسامت أرواحهم عن الضغائن.
هل فهمنا الآن لماذا تزداد أعداد "الأحرار" في مواقع التواصل الاجتماعي وهم يتسللون -ويتناسلون بكثرة- تحت يافطة الحرية والنقد؟
أنهم يطالبون بثأر ما بتصفية حسابٍ ما.
أنهم يَحْيَونَ حياتهم لكنّهم لا يعيشونها.
باستثناء الملاحظات النقدية المهمة التي يبديها الأحرار الحقيقيون، فما يحدث لبعض الكتّاب الجادين من تنمّر واستخفاف، بحجّة "النقد"، ينطوي في العمق على حسد مقنّع.
الكائنات الفيسبوكية تكره المدونين الجادين، لأنّهم يضيّقون مساحات الضغينة التي تعتاش عليها هذه الكائنات.
لا أحد ينجو من وحشية هذه الكائنات لأنّها حرب وجود بالنسبة لهم؛ حرب على كل من تسوّل له نفسه باستفزاز "عقولهم".
كل الكائنات المُعَذَّبَة بضغائنها ستثور على ذوي التوجهات العقلانية وتفترسهم شر افتراس، والحجّة دائمًا هي حرية "النقد"! هذا الحسد المقنّع، هذا الصرع الجماعي المُستَحكَم وجد ملاذه المريح في الفضاء الرقمي.
دائماً وأبداً ستكون هذه الكائنات هي شريان الفكر النازف.
يصعب على هؤلاء المُعتَقَلَين في السجن الأزرق التخلّي عن ثروتهم العزيزة على قلوبهم: المشاعر السامّة.
نحن نعلم جيداً، وإن لا شعورياً، أن قوة المشاعر السامّة فتّاكة لدرجة أنها قد تصيب الذات بمقتل أو على الأقل تحدث فيها عوقًا مستديماً.
نحن لا نتحمّل ذواتنا وما تتعرّض له من هجوم عنيف من قبل المشاعر السامّة، فاخترعنا آداباً سجالية وخطاباً عدوانيّ ضد الآخرين، لكي لا ترتدّ علينا هذه المشاعر الفتّاكة وتفترسنا شرّ افتراس.
بهذه الطريقة، التي وسّع مداها هذا المُعتَقَل الأزرق، نتجنّب إبادة مُحَقّقَة من قبل المشاعر ونحميها من التلف الوشيك.
بدلاً من افتراسنا لذواتنا، لغَلَبَة قوة الجهل، نوظّف عدوانية عنيفة تجاه الغير، ونحمّلهم مسؤولية معاناتنا.
وتبدو القضية كالتالي: حين تداهمنا المشاعر السامّة نصدّرها فوراً تجاه الغير.
وبهذه الطريقة نتوهم أننا نخفف من قوة الألم الذي لا يطاق والتعذيب المستمر من قوة المشاعر التي نبتلي بها.
لكن ما نفعله هو تغذية المشاعر من جديد! عبر مضاعفة العدوانية، ففي نهاية المطاف نحن من يحترق بهذا السعير، مضافاً إلى إيذائنا للآخرين.
أمّا الأفراد، هؤلاء الذين احتضنوا عزلتهم وتصالحوا معها، حتى لو كانوا موجودين في هذا المُعتَقَل، يواجهون مشاعرهم لا من خلال الهروب منها، ولا بتصديرها تجاه الآخرين، عبر افتعال تبريرات ومشاهد مسرحية تنطوي على مفارقات مضحكة مبكية، وإنما يقفون أمامها كما يقف مُرَوِّض الفيل؛ فمهما كان حجم الفيل ضخماً، إلّا أنه ممكن الترويض.
الأفراد لا يستوحشون الطريق لقلّة سالكيه، ولا ينظرون إلى الواقع برغباتهم النفسية، بل ينظرون إليه كما هو بمعزل عن هذه المشاعر السامّة.
لكن كيف لهذا الكلام أن ينفذ إلى عقول وقلوب المُعتَقَلَين طوعاً في هذه السجون الزرقاء الموحشة؟