د. علي كريم خضير
من منا لا يتذكر طبيعة حياة العراقيين أيام النظام المباد، وكيف كانت القسوة في توجيه أبناء الشعب لإداء فروض الطاعة العمياء، على الرغم من شظف العيش الذي هم عليه!!. ولا شك أن تلك الأحداث لم تمر على ذوي الحلوم الواعية مرور الكرام، بل هي خالدة في الذاكرة، وتستيقظ كلَّما شعروا بخطرٍ يداهم كرامتهم، ويقتل بصيص الأمل في إطفاء ضوء الحرية الذي تحاول أن تحجبه عن انظارنا عتاة العصر بأساليبهم الحرباوية المتلونة، ومحاولة مروقهم بيننا من دون أن نحسَّ بنواياهم الرامية إلى طمس عراقة الوطن بتأريخه، وشموخه المعهود.
هذه المعطيات أفرزت عنها المرحلة، وقُدِّمتْ من أجلها التضحيات الجسام، وتبارتْ إلى حمل راية النصر فيها، رجالٌ أشدَّاءٌ كأبي مهدي المهندس وغيره من الشهداء الأبرار الذين امتزجت دماؤهم الزكية بتراب الوطن، وارتوى كبرياءه بأرواحهم الطاهرة التي امتدت شعاعاً إلى عنان السماء.
وليست الشهادةُ صورةً تتضح للعلن في قالبٍ واحد، أو نماذج مكررة.
بل هي مواقف صاغتها الحياة، وانبثقت من وهْجِ ضميرٍ تحمَّل المسؤولية، وحمل على كاهله مناجاة الآخرين، وألقى جميع أمور الحياة الأخرى وراء ظهرهِ، عاقداً العزم على المضاء من أجل تحقيق الهدف المنشود.
وهكذا انبرى السيد الشهيد الصدر الثاني (قُدس سرّه) إلى الناس متصدِّياً لكلِّ اساءات الحزب الحاكم آنذاك، متوعداً رموزه بالرفض وعدم الانصياع، لما أوسعوه ظلماً بأحكامهم، وقراراتهم، وانعدام سبل العيش الكريم للمواطنين.
متوهمين أنَّ هذه الأساليب الهمجية ستكون صمامَ الأمان الذي سوف يضمُن بقائهم في السلطة، فراحوا يعيثون فساداً في الأرض وبلا هوادة، حتَّى ملؤوا الأرض بالمقابر الجماعية، وسدُّوا على الناس منافذ عيشهم.
وقد أدَّى ظهور السيد الصدر(قُدس سرَّهُ) بدعوتهِ لإقامة صلاة الجمعة والتفاف جمعٌ كبيرٌ من المسلمين حوله إلى اختلال هيمنة السلطة، لا سيَّما أنَّ خطب الجمعة كانت تدعو المسلمين إلى وحدة الصف، إذ أُقيمت بعض الصلواة بإمامة رجل الدين الشيعي، وأُقيمت الجمعة الأُخرى بإمامة رجل الدين السنِّي، وانخفضت مستويات الجرائم في البلاد بفعل الوعظ والإرشاد الديني الذي ترك أثراً بالغاً في النفوس.
ويخيِّل إليَّ أنَّ السيد الشهيد (قُدس سره)، لو امهلتهُ المنيةُ بضعةَ شهور، لذهب النظام الدكتاتوري إلى حيثُ لارجعة، ومن دون أيِّ تدخّلٍ خارجي؛ لأنَّه كان يعاني الخواء، ولا يستطيع من مواجهة ارادة الشعب التي استمرأت أيامه على مضضٍ، وكانت تنتهز الفرصة تلو الأخرى من أجل الإطاحة به، لكنَّ رؤية الدول الكبرى كانت تحبط أيَّ محاولةٍ تُذكر بسبب تجذُّر اطماعها في المنطقة، وهكذا ذهبت ثورة السيد الشهيد الصدر السلمية بفعل هذه الأسباب إلى عدم تحقيق أهدافها، بعد أن انتهت باستشهاد السيد الصدر ونجليه الطاهرين.
بيد أنَّ البذرة المعطاء لا بدَّ من أن تبقى جذورها راسخة في الأرض، لذا بقيت ثورة السيد الصدر (طاب ثراهُ) حيَّةً، تتبرعمُ يوماً بعد آخر، وستبقى متوهجةً وإلى الأبد.