باقر صاحب
يدور الحديث في الصحافة العربية والعالمية منذ مدة ليست بالقصيرة، عن سعيٍ حثيثٍ لعديد دول العالم عن الحاجة الكبرى لما يسمى “إزالة الدولرة” ويُقصد بهذا المصطلح “عملية الابتعاد عن استخدام الدولار في التجارة الدولية”. لا شك أن الولايات المتحدة الأميركية، لم تتسيدِ العالم بقوتها العسكرية العملاقة، بل كذلك لكونها تتزعم الاقتصاد العالمي، ولها القدرة الكبيرة في الهيمنة على مخرجات ومدخلات عملتها الوطنية والعالمية في الوقت ذاته: الدولار الأميركي.
وتذكر مصادر صحافية عديدة أن هيمنة الدولار، والتعامل التجاري العالمي به، حصلا بعد أن مُنحت للولايات المتحدة الأميركية فرصةٌ ذهبية، بعد أن وقعت 44 دولة من مختلف أنحاء العالم على اتفاقية “بريتون وودز”، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، تلك الاتفاقية تقضي “بإنشاء نظام تبادل عملات دولي جماعي مرتبط بالدولار الأميركي والذي كان مرتبطاً بسعر
الذهب”.
وما دمنا نستدرج في مقالتنا هذه معلوماتٍ تاريخيةً عن هيمنة الدولار في التعاملات التجارية العالمية، ينبغي أن نذكر بأن الوصول إلى القمة يتبعه الانحدار إلى الوادي، إذ تذكر المصادر الاقتصادية أن عملية إزالة الدولرة أو إضعاف التعامل به إلى الحدّ الأدنى “لم تحدثْ على مدار يومٍ أو عام، بدلاً من ذلك كانت عمليةً طويلة الأمد استمرت العشرين عاماً الماضية، النسبة المئوية للاحتياطيات العالمية المحتفظ بها بالدولار تتناقص تدريجياً، وفقاً لـBloomberg، انخفضت نسبة الدولارات المُحتفظ بها في احتياطيات النقد الأجنبي من 73% في عام 2001 إلى 58% بحلول عام
2023”.
وهنا لا بدَّ أن نعرّج إلى أسباب ما حدث، من تململٍ عالمي من التعامل الرئيس بالدولار، ففي تقرير لمجلة Modern Diplomacy الأوروبية ذُكرَ بأن تقليل التعامل بالدولار عالمياً، هي استراتيجية ليست بجديدة، إذ “كانت تستخدمها الدول في السابق لتحدي الولايات المتحدة”، أما مستجدات هذا الأمر الآن، هو تجدّد التحدي ذاته، بفعل بروز قوى اقتصاديةٍ عملاقةٍ مثل الصين، على سبيل المثال، تعمد في مساراتها السياسية والاقتصادية إلى الخروج من دائرةٍ أحاديةٍ القطب، فضلاً عن روسيا، التي تخوض حرباً ضد أوكرانيا، وقد فرض حلف الناتو ودول الاتحاد الأوروبي عقوباتٍ غير مسبوقةٍ على روسيا، في محاولة إلحاق الهزيمة بها وبزعيمها بوتين الطامح إلى إعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي السابق، كقوةٍ عظمى تقفُ ضدّ الولايات المتحدة الأميركية في إبقاء العالم أحاديّ القطبِ
بزعامتها.
البوابة الأولى لنقض تلك الأحادية، هي تشجيع الكبار مثل الصين وروسيا لدول العالم النامية، على تقليل التعاملِ بالدولار إلى أقصى حدٍّ باللجوء إلى التعامل بالعملات المحلية، والمدهشُ في الأمر أنّ هناك 60 دولةً في العالم تتعامل بعملاتها الوطنية، فضلاً عن أنه لسداد ديونها مع الدول الأخرى تتفق على التعامل مع اليوان الصيني، كما جرى بين روسيا وبنغلاديش، كذلك اتفقت بنغلاديش والهند على التبادل التجاري بالروبية الهندية. وهناك دول صناعية متقدمة مثل البرازيل اتفقت على التبادل التجاري مع الصين باليوان، بالإضافة إلى أنّ هناك خططاً لمجموعة دولٍ لإنشاء عملةٍ جديدةٍ تنتشر عالمياُ لتضعف التعامل بالدولار إلى أبعد المديات.
ومن هنا نرى أنّ على البنك المركزي العراقي بوصفه واضع السياسة النقدية في العراق أن يحذو حذوَ تلك الدول، ويكون التعامل الرئيس بالدينار العراقي، فذلك يضع عملتنا الوطنية في سلّة العملات الدولية الأخرى.
العالمُ يتغير سريعاً، وقد قال الفيلسوف اليوناني القديم هيرقليطس “لا يخطو رجلٌ في نفس النهر مرتين أبداً”، فلنكنْ على أقصى الاستجابة والتعاطي مع المتغيرات، ولنسارعْ في اللحاق بسباق الكبار نحو عالمٍ متعدد الأقطاب.