عبدالله حميد العتابي
يخطئ من يقلل من تغريدات لاعب ريال مدريد البرازيلي فينسيوس؛ فتغريداته اخذت ابعادا سياسية واقتصادية، فلاول مرة في تاريخ كرة القدم، رؤساء دول والامم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان، ووزارة الخارجية الامريكية تدين العنصرية ضد فينسيوس، لا سيما أن الاخير اتهم اسبانيا بالعنصرية.
فهل اسبانيا عنصرية؟
للاجابة عن هذا السؤال لا بد من الرجوع إلى ما قبل خمسة قرون، حين صدر قانون طرد الموريسكيين المسلمين واليهود من اسبانيا، لكن بعد أكثر من خمسة قرون على طردهم من إسبانيا إلى جانب مئات الآلاف من الموريسكيين (المسلمين)، بدأ يهود السفارديم استعادة الصلات بماضيهم في تلك الأرض بعد أن فتح لهم المشرع الإسباني الباب على مصراعيه بقانون جديد يمنح الجنسية الإسبانية لأحفادهم.
وبعد تلك القرون الطويلة من الغياب، بدء سريان القانون التي يعيد لأحفاد اليهود السفارديم الذين طرودا من إسبانيا عام 1492 بعد سقوطها في أيدي الملكة إيزابيلا الكاثوليكية والملك فرناندو، حيث قال ملك اسبانيا في كلمة بالمناسبة “كتبنا صفحة من التاريخ بهذا القانون.. لقد اشتقنا إليكم”.
ويعد القانون الجديد تتويجا لمسيرة طويلة من الإجراءات على درب مراجعة إسبانيا أخطائها في حق اليهود، الذين طردتهم من أراضيها، حيث فتحت المجال نحو طريق العودة أمام أحفادهم، شريطة تخليهم عن أي جنسية ثانية، بعد أن كان حكام مدريد اعتذروا قبل نحو ربع قرن عما اقترفه أسلافهم في حق اليهود.
وتصف الحكومة الإسبانية الخطوة الجديدة بأنها تصحيح “للخطأ التاريخي”، الذي ارتكبته الملكة إيزابيلا الأولى، والتي خيّرت غير المسيحيين في إسبانيا بين اعتناق مذهبها أو مغادرة أراضيها، قبل أن تتفاقم محنتهم في ظل حكم الملك فيليب الثالث، الذي اتخذ عام 1609 قرارا حاسما بطردهم، لكن السؤال الذي يُطرح هو كيف تنظر إسبانيا إلى ماضيها، ووفق أي اعتبارات تعيد النظر في تاريخها، وفي علاقاتها بشكل خاص بالمسلمين، الذين عمروا أرض الأندلس نحو ثمانية قرون، وشيدوا هناك تاريخا لا تزال معالمه شاهدة على نهضة حضارية وفكرية، امتد إشعاعها إلى باقي أنحاء أوروبا؟
فقبل أربعة عشر عاما مرت الذكرى المئوية الرابعة لقرار الملك فيليب الثالث طرد الموريسكيين، لكن تلك الذكرى مرت دون صدى كبير في صفوف أحفاد الطاردين، وإن كانت ذاكرة أحفاد المطرودين لا تزال تعج بآثار وآلام الإبعاد والتنكيل.
وفي خضم تلك الذكرى، رفع الكاتب الإسباني خوان غويتسولو صوته ضد صمت بلاده الرسمي، وانتقد تعاملها مع تلك الصفحة المظلمة من تاريخها، قائلا إن “إسبانيا الرسمية والأكاديمية تلتزم صمتا حذرا يعكس مدى انزعاجها من الذكرى”.
وفي المنحى نفسه، قال المؤرخ رودريغو دي ساياس إن “إسبانيا الرسمية لا ترغب في رؤية ماضيها”.
في مقابل المسار الرامي لإعادة الاعتبار للسفارديم، تشهد الساحة السياسية الإسبانية بين الفينة والأخرى تحركات محدودة لإعادة الاعتبار للموريسكيين إقرارا بما ذاقوه أيضا من تنكيل وتصفية وطرد، وعرفانا بإسهاماتهم في بناء وتعمير إسبانيا طيلة قرون طويلة، لكن تلك الخطوات لم تتبلور في قوانين وقرارات نافذة.
ومنذ أن بدأ الحديث عن التوجه الإسباني لإعادة تجنيس أحفاد اليهود، تعالت أصوات منتقدة في صفوف الموريسكيين، الذين طرودا في ظروف تجمع الكثير من المصادر والوثائق على أن هذا الطرد كان بمثابة “تصفية عرقية ودينية حقيقية”.
والواضح إن ذلك التوجه يمتاز بأنه كيل بمكيالين، وانحياز لليهود على حساب المسلمين، الذين كان عدد المطرودين منهم يفوق بكثير عدد اليهود ممن فروا من محاكم التفتيش ومن الرهبان الذين سموا أنفسهم “كلاب الرب”، وكانت مهمتهم التفتيش عن عقائد غير المسيحيين في إسبانيا.
فهل من صرخة موريسكية مدوية كصرخة فينسيوس، تجلب النظر إلى مأساة الموريسكيين التي ستظل مطروحة على بساط التاريخ، وفي محافل السياسة والثقافة، وفي حراك المجتمعات، فمتى تعترف الحكومة الإسبانية رسميا بمأساتهم وتقدم لهم أيضا تعويضات معنوية ومادية، عما لحق بهم جراء طردهم من ديارهم في إسبانيا.