بغداد: مآب عامر
في صباح وظيفي هادئ، تجلس إلى جانب مكتب العمل، تشغل الحاسوب استعداداً للقيام بمهامك اليوميَّة، ترتشف من فنجان قهوة سريعة التحضير خاصتك، حولك زملاء العمل منغمسين في مهامهم، تبدأ الشروع بالعمل، صوت اشعار يصل إلى هاتفك المحمول، يستهويك الفضول لرؤية المحتوى، ويظهر لك رابط فيديو أرسله لك أحد الأصدقاء من ضمن قائمة مقاطع "الريلز" المضحكة على تطبيق التواصل "فيس بوك"، تنتقل من فيديو إلى آخر ومن تطبيق إلى غيره.
هكذا من الممكن أن ينتهي نصف يومك الخاص بأداء عملك من دون الشعور بالوقت أو انجاز أي شيء، بمعنى "عدم فعل أي شيء" وهو بالضبط مفهوم التسكع لدى الثقافات الغربية، أما لدى العرب قديماً، فدوما ما كان يُربط ثقافياً بالصعلكة والتشرد، ويطلق عليهم "الشعراء الصعاليك".
والواضح.. أن التنزه والتسكع قد أخذ منحنيات مختلفة مع مرور الزمن، فهو كظاهرة اجتماعية بدأ بالتطور والتغير مع سلوك المجتمع وانفتاحه، وهنا يعرف التسكع أيضا بأنه "التجوال والتنزه بين الشوارع بشكل مجموعات أو فرادى".
وفي بدايات القرن الماضي شبه التسكّع بالطبقة البرجوازيّة وعد ظاهرة حداثويّة، وهذا ما أسسه الفيلسوف الألماني والتر بنيامين، ووصفه بأنّه "شخص لا يزال على العتبة، في المدنيّة كما في الطبقة البرجوازيّة. فلا هي التي ابتلعته، ولا هو بالمستقر في بيته. وهو يبتغي اللجوء في وسط الجموع".
وعند البحث والرجوع إلى المصادر سنكتشف أن التسكّع قد يقارب مفهوم الصعلكة أو ينسب إليه، كما أن هناك من يقول إنَّ هذه الظاهرة أحدها يعود إلى كونه مثمرا وآخر غير مثمر.
وفي استطلاع أجرته إحدى الصحف، يسرد الفرق بين التسكع والصعلكة، يوضح أن الأول ينجم عن الكسل، بينما الآخر هو مثمر كما في صعلكة الأدباء والفنانين.
وهنا يأخذنا الحديث عن شخصيات أدبية وثقافية عديدة، منهم الروائي نجيب محفوظ الذي نراه منتجاً بمفهوم هذا التسكع، خاصة وأنه كان يتجول في المقاهي غاية في معرفة شيء ما، أو الاطلاع على شيء ما يمكن إضافته أو تدوينه في أوراقه. وهذه العملية أو السلوك ربما هو الطريق الذي اتخذه لنفسه كي يتمكن من الوصول إلى حقيقة ما، ينقلها عبر إبداعاته الروائيَّة للمجتمع القارئ.
ومثلما كانت غالبية الكتاب من الروائيين يستخدمون تجوالهم "التسكع المثمر" في أفق مشروعهم الكتابي، كذلك كان الفنانون يستعينون بـ "التسكع" في السياق الأكبر لبحثهم عن الجمال، كنوع من التفريغ أو التجدد بعد اكتمال نتاجاتهم الفنية. الأمر الذي يجرنا أيضاً لبعض من الصحفيين الذين يهتمون بالنتاج الأدبي، فشأنهم في ذلك شأن الروائي والقاص وحتى الشاعر، يبحثون بهدوء متلصص عن الشيء الذي من شأنه أن يكشف المخبوء في ضوء الواقع، ويستقصون عن الوجود من حولهم.
لقد اعتبر "التسكع" قديما أمراً إبداعياً ويمن على الجمال بالشيء الكبير، فالتجوال بين المتنزهات والمناظر الطبيعة يضفي المميز والمختلف ويبعث عن الاستكشاف والتحرر، فضلاً عن إعادته إلى "أدب الرحلات" كما يتم تصنيفه عادة، فلولا التجوال الذي يعد المغذي الرئيس للمخيلة، لما تمكنا من سرد العالم الجديد.
ولكن، ما نعرفه قديما عن "التسكع" تجاه الحاضر يمكن أن يكشف الفرق الذي ترتب فيما يبدو نتيجة التطور التكنولوجي والحداثة العصرية، فكانت المقاهي قديماً، اليوم عبارة عن محطات يتوقف عندها الرواد.. يجلسون على المقاعد يحتسون القهوة والشاي وبجانبهم الأراجيل بينما هم منشغلون يتجولون ويتسكعون عبر هواتفهم النقالة العالم بأجمعه، فنرى أن كل ما في العالم من مسافات وأبعاد صار التسكع فيها يجعل من المتعة غاية نهائيَّة، ولكن حتى "التسكع" عبر الانترنيت اتجاهه يكون بشقين، الأول الذي تعتمده الأغلبية يمكن أن نطلق عليه تسمية "التسكع غير المثمر أو الفارغ" وهو ما تعتمده غالبية الناس بمختلف مستوياتهم، حيث التسلية والمتعة الآنيَّة أو اللحظيَّة بالمعنى التقليدي عبر محتويات يتم عرضها بطريقة قسريَّة على الرغم من أن متابعتها انتقائيَّة.
أما الشق الثاني وهم شريحة الكتاب والأدباء المثقفين والفنانين، فأغلب هؤلاء يكون تسكعهم عبر الأنترنيت "مثمراً" لأهميته في اكتشاف المهم والغريب واللافت، حيث من الممكن أن ينقل ويدخل من ضمن التأويل الإبداعي الذي يدفع صاحبه المتسكع إلى أن يقدم لنا حقائق جديدة وجذابة عن الواقع، ولكن بعقلية متخيلة.