ثامر عباس
نتعاطى ضمن هذا المقال مع مفهوم (الدين) من منطلق، كونه (عقيدة) تحتوي على مجموعة من الوصايا المحددة والتعاليم الحصرية، التي يؤمن بها الإنسان، ويحاول مقاربة تفاصيل حياته وفقا لشرائعها وتوجيهاتها، وليس من منطلق اعتباره مجموعة (شعائر) تقام و(طقوسا) تمارس من قبل هذه الجماعة أو تلك، رغم أن كل اعتقاد ديني – وثني كان أو سماوي - لا يمكن له الاستغناء عن الفعاليات الشعائرية والممارسات الطقوسية تعبيراعن تفرده وخصوصيته. أي بمعنى أننا – في هذا الإطار – نتحدث عن (الدين) بصيغة الإيمان الثابت بالمطلق، وليس (التدين) بصيغة الارتهان للنسبي والمتغير.
وبهذا المعنى، فإن صيغة السؤال المطروح في العنوان سوف تحتمل إجابتين : كلا، ونعم. ففي الحالة الأولى التي اعتبرنا فيها أن الدين (عقيدة)، تتمحور حول قضايا (اللاهوت) المفارق، نستطيع الجزم بانعدام أية علاقة ما بين الاعتقاد الديني وبين الشعور بالاغتراب، من حيث إن هذا الاعتقاد نابع من خيار طوعي لا إلزام فيه أو إجبار عليه. أما في الحالة الثانية، والتي افترضنا فيها أن الدين لا يعدو كونه مجموعة من الشعائر والطقوس، التي يمكن إدراجها تحت مسمى (التدين)، والتي تتمحور حول شؤون (الناسوت) المحايث للواقع، فإن العلاقة – في هذه الحالة – غالبا ما تكون متواشجة ومتلازمة، خصوصا في المجتمعات التي تستغل فيها مشاعر الجمهور الدينية، لأغراض المصالح السياسية والاقتصادية.
ولعل ما كرس هذا الانطباع ورسخه لدى عامة الناس حيال قضية التلازم القائم ما بين الشعور الديني وظاهرة الاغتراب، ما نسب إلى مؤسسي الماركسية (ماركس وانجلس) قولهما إن (الدين أفيون الشعوب)، والذي فسّر على أنه (إدانة) صريحة لمظاهر الوعي الديني من حيث دوره السلبي في تبرير سياسات التفاوت والاستغلال الطبقيين، فضلا عن تأثيره إزاء حرمان المنتجين (العمال) من التمتع بثمار عملهم الإنتاجي والمطالبة بحقوقهم الإنسانية، على خلفية تسويغ عملية الفصل ما بين المنتِج والمنتَج، الأمر الذي تمخض عنها وترتب عليها (العملية) استحالة العلاقات الإنتاجية من طابعها الإنساني إلى طابعها السلعي، أو ما يسمى بعلاقات (التشيؤ) بين الإنسان المنتج من جهة، وبين السلعة المنتجة من جهة أخرى.
وفي إطار هذه العملية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية – وليس الدينية بالمعنى الذي قدمناه – فإن من المرجح أن تتبلور لدى الإنسان المستغل اقتصاديا والمضطهد سياسيا مشاعر ما تسمى بظاهرة (الاغتراب)، أو (الاستلاب) كما يرد في بعض الكتابات. بمعنى أن حالة (الانفصال) الوجداني التي يستشعرها الإنسان المقصود عن الواقع الاجتماعي المعيش، ومن ثم يستبطن إيحاءاتها وتمثلاتها السلبية، ليست هي بالضرورة نتاج (المعتقد) الديني الذي يعتنقه ويؤمن به على مستوى الوعي، بقدر ما تكون حصيلة (تجاربه) الدينية، التي قيض له خوضها على مستوى السلوك ضمن سياق اجتماعي معين، ونسق ثقافي خاص، ونظام رمزي محدد. ولعل مواقف الجماعات الإسلامية المختلفة من هذه المسألة، تبدو شديدة الوضوح وحاسمة الدلالة، لجهة التباين في مناسيب الانغمار بتلك المشاعر الروحية، فضلا عن التفاوت في مستويات الإحساس بوطأتها سوسيولوجيا وسيكولوجيا- ناهيك عن بعدها السياسي – كفيلة بتوضيح الصورة المشوشة وإبراز ملامحها الغامضة.
وهكذا، فعلى الرغم من تماثل تلك الجماعات لجهة اعتقادها بوجود إله واحد (الله) وإيمانها (بدين) مشترك (الإسلام) – والأمر ذاته ينطبق على بقية الأديان الأخرى – إلاّ أنها حالما تشرّع بالتعبير عن ذلك الاعتقاد، وتجسيد ذلك الإيمان حتى تسارع لإظهار ميلها نحو الاختلاف، بل هو الخلاف، الذي غالبا ما يكون مصدرا للاستقطابات المتعصبة والحساسيات المتطرفة، عبر تباين أنماط (التدين)، التي تتبناها وتمارسها كل جماعة من تلك الجماعات الطائفية والمذهبية، لاسيما على صعيد إقامة الشعائر وممارسة الطقوس وتفسير النصوص وتبني الرموز.
وإذا ما خلصنا إلى استنتاج أن اقتران ظاهرة (الاغتراب) بنمط (التدين) لا تتأتى من (الدين) بذاته كاعتقاد شخصي، بقدر ما تتأسس على طبيعة ما يتمثله وعينا الاجتماعي من رؤى وتصورات خاصة، فان ذلك لا يعني تعميم هذا المعنى وفرض سريانه على مختلف القوى الفاعلة في المجتمع. فمن جهة الأطراف المسيطرة، لا يشكل (الدين) ولا (التدين) بالنسبة لها مصدرا لأي نوع من أنواع (الاغتراب)، بل هي قد تستفيد من هذا الأخير لجهة منحها قدرة إضافية على تقوية مركزها وفرض أيديولوجيتها، أما من جهة الأطراف المسيطر عليها فان الاعتقاد (الديني) غالبا ما يختزل لديها إلى مجموعة من الممارسات (التدينية)، حيث تتخذ منها سبيلا؛ إما (للاحتجاج) على سوء أحوالها أو (كسلوى) لانعدام حيلتها، وفي كلا الحالتين تعبيرا عن (الاغتراب) الإنساني الذي تكابده وتكتوي بلظاه.