نكون أو لا نكون

آراء 2023/06/06
...

ميادة سفر
 تلك الصرخة، وذلك النداء الذي أطلقه قبل قرون الشاعر الإنكليزي وليم شكسبير، علينا الاعتراف أنها كانت من أعمق ما أطلق من صرخات في تاريخ الإنسانية الأدبي والاجتماعي والسياسي، وعلى صعيديها الشخصي والعام، كانت كذلك بالأمس، واستطاعت أن تحتل صدارة الأقوال المأثورة والأكثر تداولاً التي تغنى بها كثيرون، واستخدمها كثيرون قولا وفعلا، كتاب وشعراء وأدباء ومفكرون واقتصاديون وسياسيون، وكانت على مدى قرون بوصلة لهم، وبوابة للعبور إلى عقول القراء والجمهور، استناداً إلى افتراض ضرورة أن يكون الإنسان قوياً قادراً على مواجهة ما يتعرض له من صعوبات، ليبقي على وجوده وكيانه ويتمكن من مواصلة الحياة، وعلى الصعيدين الفردي والجمعي.
إلا أنّ ما يجري في عالمنا اليوم، ربما يدعونا لإعادة النظر والتفكير في تلك العبارة، التي تحولت إلى أيقونة لشحذ الهمم والإرادة، ونحن نرى ما يحدث من استهتار بالإنسان ككائن بشري، من وضع العراقيل أمامه ليتمتع بالحياة، وسد كل السبل التي تمكنه من أن يكون ويبقى حياً، بل إنّ كل ما يحصل يشي برغبة ضمنية في تدميره وقتله بأشكال وطرق شتى!.
مئات ملايين الدولارات ينفقها أثرياء ومشاهير العالم في احتفالات السنة الجديدة، ومثلها وأكثر تنفق على الحفلات والاعراس، أطعمة بملايين الدولارات تفرش على الموائد، ليكون مصيرها مكبات القمامة، مليارات تنفق سنوياً لإطعام الحيوانات الأليفة حول العالم، آلاف المليارات تنفق في سباقات التسلح واستعراضات القوة من أجل التدمير والخراب والقتل، أرقام مخيفة تنفق سنوياً على دوريات الألعاب الرياضية ومسابقات ملكات الجمال وحفلات الأوسكار، ومثلها على حملات انتخابية لشخصيات لا تعمل في حال فوزها إلا لاسترداد ما انفقته ولا يعنيها من أمر الشعب أي شيء، 2.6 ترليون دولار مهدورة بسبب الفساد المستشري عالمياً حسب البنك الدولي، يقابل هذا ملايين اللاجئين والمشردين والمتسولين، ومئات الحروب على مدار تاريخ البشرية والكثير من الكوارث الطبيعية، والمجاعات التي سببتها السياسات الجائرة بحق الإنسان والطبيعة.
أموال طائلة تنفق سنوياً للتحضير وعقد مؤتمر المناخ، دون أن يفضي إلا إلى بضعة أسطر وأنخاب تشرب على هوامشه ووعود لا تجد مكاناً لتنفيذها في عالم مليء بالجشع، بينما يستمر التغير المناخي مهدداً مصائر البشر وكوكب الأرض، فضلاً عن الملايين التي تنفق للقمم العربية والإسلامية والعالمية من قاعات وفنادق وسيارات وطعام وشراب، في الوقت الذي يفترش فيه الملايين الطرقات، لأنهم لم يجدوا مأوى لهم، وينام أمثالهم جوعى لأن سياسات التقشف والتفقير حالت دون قدرتهم على تأمين قوت يومهم.
لم تشفع ملايين القتلى والجرحى، ضحايا الحروب المتعاقبة، ولا آلاف الأبنية التي دمرت والأراضي التي استبيحت، عند قادة العالم ليعيدوا النظر في انتاج الأسلحة المدمرة وتصديرها إلى الدول التي لم تتوانَ عن اختلاق المشكلات والتسبب بالأزمات، وبالتالي استخدام الأسلحة التي اشترتها من قوت أبنائها لتقتلهم بها أو يقتلوا بعضهم بعضاً.
ماذا لو أخذ من المساعدات الأجنبية التي تذهب إلى الأسلحة ووسائل القتل، واقتطع ربعها وخصص للتعليم على سبيل المثال، ألن يكون أكثر جدوى؟
أليس من شأن هذا أن يحقق لأي بلد تحولاً كبيراً وشاملاً! ماذا يحصل لو أنفق ربع ما تصرفه الحكومات على احتفالاتها التي تمجد انتصارات وهمية في انشاء مراكز إيواء المشردين والمتسولين، وتأمين فرص عمل للعاطلين عنه، وتأسيس برامج لتمكين النساء اللواتي وجدن أنفسهن بلا معيل بسبب الحرب وغيرها؟
أليست تلك الأعمال أكثر إنسانية ورقياً من سواها، وهي تحاكي الإنسان وتأخذه ووجوده بعين الاعتبار بل فوق كل اعتبار، وتبقى «لو» الكلمة الأكثر حضوراً في أدبياتنا، ولكن دون جدوى، إذ لم تعد المشكلة في أن نكون أو لا نكون، ولا في قدرتنا على مجابهة المصاعب والعواصف والصمود في وجهها، إنما أن يكون الإنسان إنساناً، تلك هي المشكلة!.