أبعاد الإلهيَّات المغلقة في الرواية الإيرانيَّة

ثقافة 2023/06/06
...

  أحمد حيدري
 شغل موضوع الإلهيَّات حيزاً كبيراً في «كتبنا التراثيَّة». فقد خصص ابن سينا مجلده الأول من الشفاء للإلهيات. ويعرض عبد الرحمن بدوي آراء ابن رشد على أنها ليست في كتاب قائم بذاته، إنما هي ردود وتعليقات على كتب قائمة على الإلهيات. يتضمن قسم ليس بقليل من الأدب العالمي مناقشة موضوع وخطاب الإلهيات؛ ففي القرن العشرين تناول الموضوع ذاته كافكا وبولغاكف، وقبله بقرن كان تولستوي ودوستوفسكي وملويل، وقبلهم تطرق للموضوع نفسه دانته وريلكه وغوته. بيد أن الأدب الحديث الإيراني، من يعرف سنن الإلهيات خير معرفة وينظر لها نظرة نقدية، قلة قليلة.
يتناول المقال القاص والروائي الإيراني بهرام صادقي الذي كتب روايته «ملكوت» في سن الخامسة والعشرين. وعزّز النصّ برؤية الملكوت.
وهو نصّ يثير عدّة أسئلة: ما دور الإلهيات «بمعناها العام» في رواية الملكوت؟ ما هي النصوص التي يستمدُّ منها صادقي فكرته عن الملكوت ومن ثمّ الإلهيات؟، كيف أثرت جغرافيا مدينة أصفهان في اكتمال زمان ومكان الفكرة السرديَّة معتمدة على الإلهيات؟، مما يوصلنا إلى سؤال محوري: هل يتعامل المترجم مع النصِّ الذي يعمل عليه مسترجعا المرجعيّات التي اعتمدها كاتب النصّ؟.

العنصر الأول «الزمان»
يمكن ملاحظة العنصر الأول من أثر الإلهيَّات في النصّ عبر مفهوم «الزمن». فهما يومان كاملان تدور فيهما أحداث الرواية، ليلة حتى الصباح تليها ليلة أخرى حتى الصباح.
مع ملاحظة أنّ كلّ أعداد الأيام المذكورة في النصِّ هي أعداد مقدسة «سبع» أو «أربعون». لماذا قدّم الكاتب الليل على النهار واختاره زمنا لوقع الحدث؟.
نجد الكثير من النصوص التي تتناول الإلهيات، أنّها تتعمد اختيار الزمن الليلي لأحداثها. مثلما فعل إدغار آلان بو في «سقوط منزل آشر» وناثانيال هاوثورن في «يونغ غودمان براون» وموباسان في «هورلا».
إنه الليل الذي يمدّهم بمساحاتِ إلهياتٍ واسعة. وكذلك الأمر في النصوص السردية الإيرانية؛ نجد الأمر ذاته عند جمال زادة في «فضفضات الملا قربان علي» وصادق هدايت في «المنزل المظلم» وجوبك في «المصباح الأخير».
ينشغل الأنبياء بداية وفي الغالب بالرعي مساء؛ تجبرهم الحرارة على اختيار المساء، مواجهين سماء توزعتها النجوم والقمر والشهب. إنه أطهر «مكان» و»موقع للرؤية الإلهيّة.
كان صادقي من سكان أصفهان. الصحراء المركزية لإيران وتتصدر لياليها على ليالي إيرانية أخرى لإكمال مثل هذه الرؤية. وليس من العجيب أنّ أغلب كتّاب هذه الفكرة يحددونها كعصب نقدي في نصوصهم؛ جمال زادة في «صحراء المحشر» وهوشنك كلشيري في «المعصوم الخامس» وتقي مدرسي في «يكليا ووحدتها» وهرمز شهدادي في «الليل المهول» ومحمد كلباسي في قصصه القصيرة. وليس من المستغرب أنّ المترجمين الباحثين عن مثل هذه الفكرة في إيران يتجهون إلى بورخس.
ولن نتعجب إذ وجدنا نقطة تجمع الكتّاب والمترجمين على مثل هذه الفكرة، لا تخلو عائلة من عائلاتهم من أب أو عمّ أو جد كان عالم دين.
وليس من المستغرب أنّ مختارات القصص المترجمة التي اختارها وترجمها المترجم الاصفهاني أحمد مير علائي «طوق الذهب»، توجّه القصص كلّها رؤية نقديّة في المضمون نفسه «الإلهيات». ولن نجد اختيار اصفهان عاصمة للصفويَّة غريبا.
ليلها وهمساتها، شموعها التي تهزها الرياح، ظلالها، تناقضاتها، صوت صمتها، رعدها وبرقها، إنّها أفضل حاضنة للقصص محتواها الإلهيات. كأنّ صادقي تتجاذبه المادية الطبية وهاجس الإلهيات.

العنصر الثاني «الشخصيات»
يتعمد صادقي في اختيار شخصياته لتمثل طبقة وفكرة، كما فعل في قصصه القصيرة أيضا:
الرجل المجهول (الإله. موجود في كل تجمع. مخوف وقليل الكلام ومراقب، ويمتلك كاريزما. كأنه أعلى من بقية الطبقات الاجتماعيّة)  السكرتير (أفضل من يمثل الطبقة المتوسطة، راضٍ بزوجته وعمله وأصدقائه وطبقته الاجتماعية)
الرجل السمين (ممثل الطبقة العليا من دون منافس)
شكو (الخادمة. ممثلة الطبقة الدُنيا. مع زوجها الحالي حاتم الذي ينوب عن «الجنس الثاني»، ويأخذون انتقامهم من الطبيب)
السيد مودت (ليس بين الأصدقاء سوى اسم لكنّ اسمه صفة. جنّ دخل في جسد «صديق»)
الدكتور حاتم (ولاسمه دلالة الكرم. ويرى منح الموت قسم من الكرم. ومثل الكثير من الموجودات الأسطوريّة لا يتناسق رأسه مع جسده والقسمان من جسده يسيران في زمنين.
من اللافت أنّ الكثير من القتلة المتسلسلين يعتقدون أنّهم ينقذون ضحاياهم من آلامهم وينقذون ما تبقى من المجتمع. يحمل الدكتور حاتم فكرة آخر الزمان، يؤمن بالفرج بعد الشدّة)
الملكوت (وهو ينقسم إلى قسمين، الملكوت الأرضي والملكوت السماوي. أحدهما زوجة السكرتير والثاني زوجة الدكتور السابقة)
السيد م. ل (من الشخصيات المغايرة في النصوص السردية الإيرانية. فهو كشخصية خرجت من المعتقدات الإيرانية القديمة لتذكرنا بخطيئتنا).

العنصر الثالث «بنية اللغة»
من علامات نصّ «ملكوت»، القراءتان الإسلامية والمسيحية. متأسية بالقرآن والسِفر (سِفر التكوين)  في ستة فصول، دالة على خلق الله للوجود في ستة أيام: يتغيّر مستوى اللغة وزاوية الرؤية مع كلّ فصل وهي من مفارقات «سيمفونية لغوية» النصّ. وما أن نتمعن في النصّ حتى نجد أنها ثلاثية يستمد منها صادقي فكرة الإلهيات: القرآن الكريم والإنجيل ومثنوي معنوي.

الترجمة والمرجعيات
مع ملاحظة كلّ ما ذُكر، يجد المترجم نفسه أمام نصّ عليه التعامل معه بحساسيَّة.
فالمرجعيات (إذا كان على اطلاع بتاريخها ودلالتها) تحيله إلى عوالم سرديَّة تتقاطع معها جغرافيات ومفردات لها مساحات لا تظهر نفسها في القراءة السريعة، أو بالترجمة التي تمسّ السطح. هل على المترجم معرفة ما تراكم قبل النصّ، حتى يبدأ علاقته الترجماتية،أم يكتفي بالظاهر منه؟