أ.د عامر حسن فياض
قدمت المساهمة الرومانية في الفكر السياسي الغربي القديم فكراً سياسياً كان وسيطاً بين العصرين: اليوناني القديم والمسيحي الوسيط مما يعني أنه ولد من أحشاء الفكر اليوناني، بقدر ماكان رحماً نما فيه، وتطور الفكر المسيحي الوسيط. لذلك عكست مكونات هذه المساهمة كلاً من مؤثرات الفكر السياسي الإغريقي في ربيعه وخريفه، ودورها في صياغة الفكر السياسي الروماني من جهة، والمقدمات الفكرية الممهدة لولادة الأفكار السياسية الجديدة، التي تبناها المفكرون المسيحيون وآباء الكنيسة في العصر الوسيط من جهة ثانية.
وتتسم صياغات الفكر السياسي الروماني في طوريه الوثني والمسيحي بالطابع العملي الاجرائي، سواء في اتجاهه القانوني الدستوري أو السياسي الديني، وهو الطابع المستمد أصلاً من طبيعة العقل الروماني الذي غلبت عليه الاهتمامات العملية الاجرائية وطبعته بطابعها.
جسدت ذلك وعبرت عنه بوضوح أفكار أبرز ثلاثة أعلام في تاريخ الفكر الروماني، ممن وضعت صياغتهم الفكرية السياسية اسس الفكر السياسي الروماني واركانه ودعائمه وهم (بوليب وشيشرون وسينيكا).
وتوزعت الاسهامات الفكرية السياسية لهؤلاء الإعلام على اتجاهين:
- اتجاه قانوني دستوري: رأى في الدولة وسلطتها نتاجا للقانون وفسرها بدلالة الشرائع والحقوق القانونية، التي تقيم الدولة وتعمل على تنظيمها، مستبعداً من ذلك دور الوقائع الاجتماعية أو العوامل الاخلاقية والقيمية، وهو ما اصبح بعد ظهوره في الفكر السياسي الروماني جزءا أساسيا من بنية الفكر السياسي حتى الآن.
- اتجاه سياسي ديني: رأى في الدولة وسلطتها نتاج لتفاعل المؤسسات والقوى السياسية والدينية وتوازناتها أو بين الفلسفة السياسية والعقائدية الدينية، وهو ايضا اتجاه ليس له مثيل في الفكر السياسي الاغريقي، وما زال حتى يومنا هذا مكوناً أساسياً من مكونات النظرية والفكر السياسي الإنساني.
لقد أطاحت أفكار سينيكا ومن قبله بوليب وشيشرون بنظام القيم السياسية اليونانية والرومانية القديمة من أساسه، عندما احلت مبدأ المساواة العامة بين الناس، بصرف النظر عن اجناسهم واحوالهم، محل المبدأ القديم الذي يربط قيمة الانسان بالانتماء إلى دولة المدينة أو الدولة عموماً، معلنة بذلك نهاية عصر النظرية التي تجعل من الدولة الصورة الايجابية للكمال الانساني، وبداية عصر النظرية القائلة بوجود قوة فعالة، لا تفتأ تكافح عبثاً لجعل الحياة على الارض محتملة، وكان مقدراً لتلك الافكار أن تنتشر وتشغل مكانها في بنية الفكر السياسي لآباء الكنيسة، لتستقر في حياة مجتمعات العصر الوسيط الغربية وعقولها.
ولكن الاسهام الفكري السياسي الروماني، لم يقف عند حدود الأفكار السياسية، التي قدمها إعلامه فحسب، بل وشمل ذلك الاسهام ايضاً كل ما انتجوه من الافكار والمفاهيم، التي أسست لتأصيلات فكرية لاحقة، مهدت الطريق للفكر السياسي في العصور التالية، وقدمت له مرتكزاته وقواعده ومارست ادوارها وتأثيراتها الفاعلة في عصرها، وتلك العصور. وتوزعت إسهامات الفكر السياسي الروماني تلك بين اسهامات مباشرة وغير مباشرة، يتمثل أبرزها في:
الاسهامات المباشرة:
1 - جعل القانون الاداة الاساسية لضمان وحدة الكيان السياسي للدولة، وهو ما عجز الاغريق عن تحقيقه لأنفسهم ودولتهم.
2 - وضع الطبيعة مكان الآلهة، وابتكار نظرية القانون الطبيعي، وجعله المصدر الأساسي للقواعد القانونية والقيم السياسية.
3 - ارساء قواعد «قانون الشعوب» الذي تأسست عليه علاقات الدولة الرومانية مع الشعوب الخاضعة لسلطانها أو التي هي خارجه، فنشأة عن ذلك الاصول التاريخية للقانون الدولي وقواعده، خصوصاً في النطاق الحضاري الاوروبي.
4 - إرساء قواعد محددة للنظم السياسية تلقفتها النظم الحديثة، لتجعل منها اسساً تستند اليها نظرياً وعملياً ومؤسسياً مثل:
- نظرية العقد الاجتماعي كأساس لقيام السلطة الحاكمة.
- مبدأ الشعب مصدر السلطة وصاحب السيادة.
- مبدأ الفصل بين السلطات.
- نظام التمثيل النيابي.
اما الاسهامات غير المباشرة:
1 - فكرة البطل القائد الذي يرتفع فوق مستوى البشر ليصبح رمزاً للجماعة السياسية وتجسيداً لها حتى انها تغتزل فيه وتظهر عبره، وتجسدت هذه الفكرة في يوليوس قيصر واغسطس الذين كانا امتداداً رومانياً للاسكندر المقدوني. ثم اصبحت هذه الفكرة في ما بعد إطاراً للفكر السياسي الالماني، كما وضعه هيغل ونيتشه وانتقل منهما إلى المفكرين الالماني ماكس فيبر والايطالي جيتانو موسكا، ليصبح اساس نظريتهما النخبوية التي أجادا صياغتها.
2 - فكرة السيادة العالمية واسطورة السلام الروماني المستمد من هذه السيادة والمنبثق عنها، التي أصبحت اساساً لنظرية العلاقات الدولية ونظامها في مرحلة السيادة الاستعمارية البريطانية في القرن التاسع عشر، وعادت هذه الفكرة في نهاية القرن العشرين تحت مسميات العولمة والنظام الدولي الجديد واسطورة السلام الامريكي.