د.حامد رحيم
في اقتصادنا المختل هيكلياً، بالرغم من ارتفاع الطلب الكلي الناتج عن ارتفاع الانفاق الحكومي عبر السنوات الماضية وما ترتب عليه من زيادات في الاجور والرواتب للقطاع الحكومي بشكل اساس، لم نشهد تحسناً في جانب العرض الكلي الوطني، بل بالعكس قاد ذلك الارتفاع إلى ضمور القطاع الانتاجي نتيجة لفقدان القدرة التنافسية تجاه الواردات التي زادت نتيجة لارتفاع الطلب الكلي، ما جعل الاثر المرجو يتجه إلى اقتصادات الشركاء التجاريين
تضمن التحليل الكلي (macro) للطلب اربعة محاور اساسية هي (الطلب الاستهلاكي، الطلب الاستثماري، الانفاق الحكومي، صافي الميزان التجاري)، وهذه المحاور وفقا للنظرية الاقتصادية تؤثر في معدلات النمو الاقتصادي ايجابيا، كونها تفعل متغيرين هما (المضاعف والمعجل) في جانب العرض الكلي مما يقود إلى توسعة الاستثمارات في قطاعات الانتاج المختلفة داخل النشاط الاقتصادي، وهذا يحصل في ظل سلامة الهيكل العام للنشاط الاقتصادي وغياب الاختلالات، التي تقود إلى نتائج مغايرة.
في اقتصادنا المختل هيكلياً، بالرغم من ارتفاع الطلب الكلي الناتج عن ارتفاع الانفاق الحكومي عبر السنوات الماضية وما ترتب عليه من زيادات في الاجور والرواتب للقطاع الحكومي بشكل اساس، لم نشهد تحسن في جانب العرض الكلي الوطني، بل بالعكس قاد ذلك الارتفاع إلى ضمور القطاع الانتاجي نتيجة لفقدان القدرة التنافسية تجاه الواردات التي زادت نتيجة لارتفاع الطلب الكلي، ما جعل الاثر المرجو يتجه إلى اقتصادات الشركاء التجاريين باعتبار أن الواردات تعد واحدة من (عناصر التسرب) إلى جانب الضرائب والادخار.
ما يهمنا هو الانفاق الاستهلاكي الذي تنامى بشكل كبير عبر السنوات الماضية، وهذا ما عكسته مبيعات نافذة بيع الدولار لاغراض التجارة الخارجية التي وصلت في معدلها إلى (45) مليار دولار تقريبا سنوياً، ولتحليل نمط هذا الاستهلاك يمكن القول ان أول الملاحظات تكمن في ظاهرة (محاكاة) انماط الاستهلاك في الدول المتقدمة اقتصاديا، وهي ظاهرة عامة لا تقتصر على اقتصادنا فقط، بل هي مشكل مشخصة في الادبيات الاقتصادية التنموية، اذ يقدم المجتمع على تقليد انماط الاستهلاك مثل الميل نحو المبالغة في الانفاق على المرافق السياحية كالمطاعم الفارهة والسفر لاغراض السياحة واقتناء الاشياء الثمينة لغرض المباهاة والتفاخر وغيرها مما يظهر الصورة بشكل مشوه فنجد مثلا السيارات الفارهة في الاحياء البائسة والمتردية خدميا، وهي تسير على شوارع كلها مطبات وحفر، ونجد الطلب العالي على الاثاث الفاخر وسط تردي الخدمات الصحية والتعليمية، فلا تجد مدرسة فيها أثاث يستوعب الطلاب الا ما ندر وأسِرَة المستشفيات لا تصلح لرقود المرضى، بل نجد بعض الافراد يقتنون سيارات ذات اسعار تضاهي أسعار المنازل، وهم يسكنون منزلا مؤجرا وغيرها من الامثلة، كذلك نجد عامل بناء يقتني موبايلا غالي الثمن على حساب ذهاب تلك الاموال، من المفترض إلى التراكم التدريجي ليحولها إلى مشروع مدر للدخل، وكذلك نجد الاهتمام الكبير في موائد الطعام بشكل يفوق الحاجة الفعلية للاسرة، وهذا ما بينه تصريح امانة بغداد من ان قرابة
(65 %) من القمامة تشكل بقايا طعام، ومن المؤاخذات المشخصة هي حجم الطلب على السلع الاستهلاكية في مواسم الاعياد والمناسبات بشكل غير معقول، ولا ينكر دور الحكومة والسلطة النقدية في استفحال بعض تلك الظواهر من قبيل الفشل في تقديم خدمات صحية جيدة، ما دفع الناس الميسورين وغير الميسورين إلى البحث عن مستشفيات خارج البلد للاستشفاء، وسياسة الدولار الرخيص ودعم الطلب على الدولار لغرض السفر وغيرها.
بطبيعة الحال الفرد قد ينساق خلف تلك الممارسات غير الرشيدة في الاستهلاك، نتيجة لعدم وجود بيئة استثمارية تحفز للادخار والمضاربات المالية وغيرها، اي بيئة محفزة لنمو الطلب على النقود لاغراض التحوط والمعاملات غير الاستهلاكية، وهنا مكمن التقصير من قبل السلطة الاقتصادية، والتي كانت داعمة لنمو الظواهر المشار اليها انفا. ان الاثر المترتب على هكذا نمط من الاستهلاك يكمن في نسف التراكم الراسمالي الذي يعد هو حجر الزاوية في تحقيق التنمية مما فسر ضياع الايرادات المتحققة بعد عام التغيير السياسي دون اي اثر تنموي في الاقتصاد، ودفع بالاثر المرجو في حفز النمو الاقتصادي من الاقتصاد المحلي إلى الشركاء التجاريين، فنجد عاملي المضاعف والمعجل يعملان لديهم والانفاق الاستهلاكي من حصتنا، وهذا ما يفسر ظهور شركات انتاجية تخصص سلعها للتصدير فقط إلى داخل اقتصادنا، وهذا ما حصل في تركيا وايران على سبيل المثال، ومن الآثار الأخرى المترتبة هي مستوى التبعية الاقتصادية للخارج نتيجة لحجم الطلب الكبير على الواردات وغيرها.
إن واجب السلطة الاقتصادية تكمن في استخدام االادوات (الضرائب والتعرفة الجمركية وسعر الصرف) لاعادة الامور نحو الرشد في الاستهلاك، عبر فرض ضرائب على النشاطات الكمالية مثل المطاعم الفارهة وغيرها وفرض تعرفة جمركية كبيرة على السلع التفاخرية، مثل السيارات الفارهة والمصوغات الذهبية المستوردة وملابس الماركات العالمية وحتى الاتصالات الهاتفية وغيرها للحد من مستوى الطلب الكبير عليها، اما سعر الصرف فيجب اعادة النظر في تحديد قيمته والسياسات المتبعة في تسويقه بشكل مدروس لغرض ايجاد تراكم راسمالي مع توفير اسباب محفزة للادخار.