العنف من أجل الحفاظ على القيم سعيد الغانمي: نحن الأجيال التي طحنتها الحروب ولم تُبقِ منهم إلا القليل

ثقافة 2023/06/07
...

حاورته: نوارة محمد 



سعيد الغانمي صاحب الثراء الأدبي الغزير والحاصل على جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2017 في فرع الفنون والدراسات النقدية عن كتابه “فاعلية الخيال الأدبي” يصرُّ على أنَّ في الكتابة جانباً يستعصي على الموت، وهو توقه للانفتاح على الأزمنة. وهذا ما يتطلب وعياً استثنائياً من الكاتب بحيث يتحدى وسائل التوصيل السائدة ويتفوق عليها.

هو كاتبٌ ومترجمٌ، برع في النقد الأدبي وشغلته الأيديولوجيا، إنَّه المفكر المتمتع بمكانته في تاريخ النقد الثقافي العراقي وصاحب أهم الاطروحات التي تتبعت ولادة النقد ومسيرته خلال قرن.


في كتاب (مئة عامٍ من الفكر النقدي) تابع الغانمي الثقافة العراقيَّة منذ بداياتها الأولى بعد إعلان الدستور العثماني، حتى نهاية القرن العشرين، منشغلاً بالتوجهات الفكريَّة العامَّة، إلى ذلك يشير الغانمي: “بدأت بكتابة (مئة عامٍ من الفكر النقدي) في أواخر الثمانينيات، وانتهيت منه في أواخر التسعينيات، وما كان يعنيني فيه أنْ أتوصل إلى قراءة الفضاءات الاتصاليَّة التي كانت تعتمل في داخل الثقافة العراقيَّة؛ فضاء المقهى والديوان، ثم الصحافة والإذاعة والتلفزيون، وصولاً إلى فضاء الكتاب. كان المناخ الثقافي في العراق حينئذٍ مشحوناً بمختلف ألوان الكآبة والعنف والدمويَّة. ولذلك كان ينبغي أنْ نحرصَ على ألا نجامل أحداً، ولا نستفزَّ أحداً في الوقت نفسه. وقد قدَّمت في الكتاب تعريفاً جديداً للسلطة يتخطى الانتماء الأيديولوجي، حين وصفتها بأنها (ممارسة العنف للحفاظ على منظومة من القيم)، كما أشرتُ إلى ذلك في مقدمة الطبعة الثانية من الكتاب الصادرة في بغداد. كان الكتاب محاولة جديدة ليس فقط في التعريف بالمناهج الحديثة، بل أيضاً في تعديل هذه المناهج وتكييفها واستدخالها في ثقافتنا حينئذٍ. ولهذا السبب فقد دعوت في الكتاب إلى ما سميته بالقراءة بكل الحواس، أي القراءة المنفتحة على جميع المناهج من دون التحول إلى قراءة انتقائيَّة تمارس النرجسيَّة.

في الواقع فإنَّي عدتُ مراراً إلى هذا المنهج الحواري الذي دشنته في هذا الكتاب. وقد حرصتُ في كتاب (فاعلية الخيال الأدبي) على أنْ أتعاملَ مع النصوص الفكريَّة والإبداعية والثقافية بوصفها نشاطاً يوجد على تخوم المعارف الإنسانيَّة. في كتاب (مئة عام من الفكر النقدي)، تابعتُ الثقافة العراقيَّة منذ بداياتها الأولى بعد إعلان الدستور العثماني، حتى نهاية القرن العشرين، منشغلاً بالتوجهات الفكريَّة العامَّة، من دون الدخول في التفاصيل التاريخيَّة.

حقق الغانمي الذي ولد في العام 1958 في العراق، وحصل على بكالوريوس قسم الترجمة في كلية الآداب بجامعة الموصل في العام 1982. إنجازاً كبيراً في تتبع تاريخ اللغة العربيَّة في مختلف الحقب الثقافية، وفي (ينابيع اللغة الأولى) بدأ ما أسماه بعض الباحثين بنقوش العربيَّة الأولى، التي تعود إلى بواكير الألفيَّة الأولى قبل الميلاد، وعُثر عليها في بلاد بابل، وانتهى بحقبة مدينة الحيرة التأسيسيَّة التي هي آخر حقبة عربيَّة ثقافيَّة قبل الإسلام.

يقول الغانمي “كانت أغلب الدراسات اللغويَّة لدينا تتبع النحو التوجيهي واللسانيات المعياريَّة في أكثر أشكالها جموداً وسكوناً. لكني بعد أنْ قرأت ابن خلدون، تعلمتُ منه أنْ أفتحَ نوافذ العلوم الإنسانيَّة على بعضها. وفي الوقت نفسه لاحظتُ أنَّ بعض الأعمال السرديَّة التي أنتجها المخيال الصحراوي حديثاً تشبه في طريقة تفكيرها طريقة تفكير الشعراء الجاهليين. وهكذا فكرتُ بإمكان تطبيق مناهج العلوم الحديثة على تاريخيَّة الأدب واللغة العربيين منذ أقدم العصور. والحقيقة أنني وسعتُ قليلاً مفهوم “العصبية” لدى ابن خلدون لكي أستخرج منه ما سميته في كتاب (ينابيع اللغة الأولى) بالحقبة التأسيسيَّة. ومن هنا تابعتُ تاريخيَّة اللغة العربيَّة في مختلف الحقب الثقافيَّة. تابعتُ آلاف النقوش العربيَّة التي لم يتناولها النقد الأدبي والقراءة الثقافيَّة قبلي على الإطلاق. ولحسن الحظ فقد عثرتُ على بعض النصوص التي لا شك في أنها كانت في عصرها نصوصاً شعريَّة أو أدبيَّة. ولم أكتفِ بالعناية بالجانب الأدبي وحده، بل حرصت على بيان تاريخيَّة اللغة، وكذلك النظام الكتابي المتبع في تدوينها. وكرست الفصل الأخير من الكتاب إلى إمكان العثور على ملحمة أدبيَّة عربيَّة ضائعة كانت تُروى شفاهاً في أثناء حقبة الحيرة التأسيسيَّة، غير أنها لم يُتحْ لها أنْ تُدوَّنَ كتابياً لتصل إلينا. وقد بحثت في ما سميته بالوحدات المكوِّنة للملحمة في الفصل الأخير من الكتاب”.

الغانمي الذي سحرته الفلسفة واجتذبته اليساريَّة تأثر كثيراً بمذاهبها، لم يُعرف عنه أي ارتباطٍ سياسي أو مذهبي وهو يفسر ذلك “عندما فتحنا عيوننا على العالم في العراق، كانت الأيديولوجيا تشكل الأفق الذي يتطلع منه الجميع إلى العالم. لم يكن بوسع أحد الإفلات من ضغوط الأيديولوجيا على الإطلاق. وهناك شيء ما سرِّي في الأيديولوجيا كما عاشها المثقفون وغير المثقفين في العراق، لأنها كانت مغمسةً بمنظور ديني لا غبار عليه. كان الجميع ينظرون إلى الأيديولوجيات التي يعتنقونها بوصفها أدياناً، ويمارسونها كما يمارسون الطقوس الدينيَّة. وهذا شيء أتمنى أنْ أعودَ ذات يوم للكتابة عنه وتوضيحه. وبالطبع لم أكن بمنجى من هذا الشعور. لكني تصرفت معه بطريقة ذكيَّة. وفي مطلع شبابي المبكر، وأنا في الثانويَّة، انكببتُ على قراءة الفلسفة بمختلف مذاهبها: هيغل، ماركس، كانط، برجسون، سارتر، ديوي، أفلاطون، أرسطو. قرأت التراث الفلسفي باستغراقٍ كامل. ثم بعد ذلك قرأت الفلسفة الإسلاميَّة: الفارابي، ابن سينا، ابن رشد. لكنَّ أكثر من استهواني هو صدر الدين الشيرازي. كان عبقرياً يريد أنْ يكره اللغة الأرسطيَّة على التعبير عن أفكارٍ مضادة لها. فكان البحث الفلسفي يشغلني عن التفكير بالانتماء السياسي. ولا أخفي أنني تردَّدتُ كثيراً بين الهيغليَّة والماركسيَّة. كان معمار النسق الفكري لدى هيغل يسحرني. وفي المقابل، كان التفكير بالأخلاق والعدالة الاجتماعيَّة لدى ماركس يجعل منه شخصيَّة مغرية ومذهلة. ثم دخلتُ في طور الاهتمام باللغة التي علمتني أنَّ جميع المذاهب الفلسفيَّة والأيديولوجيَّة تجد جذورها في العواطف والأبنية اللغويَّة. لم أنتمِ في حياتي إلى أي حزبٍ سياسي، وهو موقفٌ اتخذته عن قناعة. والآن أشعر بأنَّ التيار السياسي الوحيد الذي يستهويني هو التيار الذي يحفظ الكرامة الإنسانيَّة، ويحترم القانون”.

يعدُّ الغانمي من رواد جيل الثمانينيات الذين وصفوا بأنهم من أبناء الحروب، وهو ممن صقلت الحروب عقولهم منهجياً وبنيوياً وهو يعدها وسيلة للانشغال بالنصوص عن هذا الموت المتدافع الذي تنقله أيديولوجيا الخراب.

“لسنا أبناء الحروب، بل نحن الأجيال التي طحنتها الحروب، ولم تُبقِ منهم إلا القليل. وفي حقيقة الأمر، لم تكن هناك حربٌ واحدة تجري على السواتر، بل عدة حروب مركبة؛ حروب التشكيك بالولاء، وحروب التمايز العرقي والمذهبي والمناطقي والأيديولوجي والولائي؛ وكان العدو في كل مكان؛ في الجبهات الأماميَّة، ‘في أجهزة المخابرات، ومفارز الإعدام المتجولة، وفي التقارير السرية التي كانت تُرفع برواجٍ كبير. كان الموت يتطلع إلينا مدراراً من جميع الجهات؛ من الأمام والخلف، واليمين واليسار، والأعلى والأسفل. وفي الحقيقية أنَّ أكثر الأدباء كانوا يتطوعون لخدمة تجميل الحروب والتبشير بها. لكنني عزلت نفسها عن حفلة المطاحن البشريَّة. ودفعتُ ثمن ذلك من عمري. على الصعيد الفكري، كانت البنيويَّة بما فيها من حياديَّة وتجردٍ عن الأيديولوجيا مجرد وسيلة للانشغال بالنصوص عن هذا الموت المتدافع الذي تنقله أيديولوجيا الخراب. مع ذلك لم أكن بنيوياً بالمعنى الدقيق، كنت آخذ من البنيويَّة شيئين أفاداني كثيراً؛ التعريف والتصنيف. ولم أنتقل إلى ما بعدها، لأنني لا أعتقد بهذا التقسيم الزمني السهل. أعتقد أنَّ ما يشغلنا وما سيظل يشغلنا دائماً هو أننا نخلط في العادة قضية الهوية بالمنهج. في كل مبحثٍ يفكر به العربي، يجد أنَّ إشكاليَّة الهوية تفاجئه في مكانٍ ما. وأدعو إلى الالتزام بهوية منفتحة، تحترم الماضي، ولكنها تؤجل اكتمال حضورها إلى المستقبل. مع الهوية، في أفق التفكير الراهن، توجد جميع المشكلات هنا والآن، لا في الماضي، ولا في حاضر الآخر الغربي”.