تحرير البلاغة نحو خطابٍ بلاغيّ متعدّد الرؤى

ثقافة 2023/06/07
...

   

د. فاضل عبود التميمي



 يريدُ د. صلاح حاوي في كتابه (تحرير البلاغة: بحثٌ في الذاكرة) دار شهريار البصرة: 2021، أن يحرّر البلاغة العربيّة القديمة من مشكلات وجدها متعدّدة، ولأجل ذلك قدّم جملة تساؤلات أوّلها هل استعمرت البلاغة واحتلّت لتبحث الآن عمّن يحررها؟ وهل يمتلك المؤلفُ نفسه أدوات التحرير؟ بهذين السؤالين المهمّين يمضي المؤلّف في عرض أفكاره الخاصّة بالتحرير مستعينا بالمعجم، ومزيد من الأسئلة التي أفضت إلى تقرير حقيقة مؤداها أن البلاغة القديمة ما عادت قادرة على مجاراة العصر، وأنها في ثوبها الجديد تشهدُ حضورا واضحا في المجتمع والمعرفة، ولم تعد حبيسة ذاكرة الماضي في إشارة دالة على انفتاح البلاغة الجديدة في توجّهاتها التي تجاوزت المعهود من الخطابات إلى أشكال متعدّدة استمدت فاعليتها من ثقافة الغرب، وحاجة الحياة المعاصرة، وهي تتعامل مع نصوص، ومظاهر، وظواهر كانت بعيدة عن البلاغة القديمة،
فبلاغة اليوم تنفتح على جملة فضاءات رحبة تبدأ من الحجاج وتمرّ بالمظاهر الراصدة للحياة السياسيّة، والرياضيّة، ولا تنتهي بالظاهرة الاجتماعيّة بوصفها خطابا بلاغيّا حتى ضاقت الذاكرة المعاصرة عن استيعاب أنساقها كناية عن انفتاح خطابها، وبروز  ظاهرة التحوّل في أنساقها.

   وكان المؤلّف د. صلاح حاوي، وهو يستحضر أدوات التحرير وعدّته المنهجيّة قد وضع نصبَ عينيه مخاطر رفض المقترح من جهات مختلفة؛ تلك التي تعدّ مشروعه بعيدا عن الاجتهاد المعرفي الذي مارسته أجيالٌ من المؤلفين الذين كانوا ينظرون إلى البلاغة العربيّة على أنّها كيانٌ يُجتهد فيه في حدود معقلنة لا تتخطى الخروج عن دائرة الفهم والإجراء الخاص بالخوض في مصطلحات البلاغة الثلاثة: البيان والمعاني والبديع، فضلا عن أنّه رأى الشروع في التحديث تخطّيا واضحا للذاكرة بوصفها تراثا؛ تلك التي تربّت على مفاهيمها، وجماليّاتها أجيالٌ من الدارسين والباحثين والأدباء، فالتحديث بحسب رأي الرافضين لفكرة تحرير البلاغة خروجٌ عن الملّة والذاكرة، وهو يسيء عمدا إلى فهم التراث، وربما التأويل بعيدا عن حقيقة ما يجري.

  ترى كيف تعامل المؤلّف مع رغبته الصارمة بتحرير البلاغة في ظلّ تصوّره السابق؟ رأى د. صلاح حاوي أن ما رغب في اقتحامه يقع ضمن دائرة قراءة التراث، من هذه الرؤية يبدأ التحرير مستندا إلى الغاية المعرفيّة الراهنة التي يريد التحصّن بها، وهي تقدّم خطابات، ووظائف مقترحة جديدة للبلاغة معنيّة بتحرير فهم التراث، وليس تفكيك الذاكرة، والتحرر منها بل التحرّر من قيودها في ظلّ بناء جديد للعلاقة مع التراث بعيدا عن هيمنة الذاكرة، وسلطة الوصايا الثابتة.    

  والتحرّر الذي يريده المؤلفُ لا صلة له بالانفلات، والفوضى التي تجتاح قسما من العلوم، والفنون، والآداب في عالم اليوم المليء بالمتناقضات والسرعة التي تتقاطع مع سلطة التأسيس، وعنده أن التحرير معنيٌّ بالكشف عن تحالفات لم تقدّم للبلاغة شيئا مهمّا على مدار تاريخها ممثّلة بالعلوم المجاورة لها والمختلطة معها، بل أخذت منها طيلة قرون ظهرت فيها البلاغة مسيّجة بسياج غيرها، فالتحالفات منسلّة من تأسيس ذاكرة البلاغة، وليست من واقع التراث البلاغي، فضلا عن أن التحرير عند المؤلّف بحثٌ عن تحالفات جديدة تمنح البلاغة سيادتها المفقودة بسبب هيمنة المعارف السابقة، ولكنه -التحرير- في الوقت نفسه يكلّف صاحبه ضريبة كسر المألوف حين يؤكّد على ضرورة فصل البلاغة عن مجاوراتها المعرفيّة التقليديّة؛ كي يبقى النصّ البلاغيّ خالصا لوجه البلاغة فحسب.

   بالعودة إلى متن الكتاب فإن سؤالا ينهض: كيف نفهم نيّة المؤلّف وهو يروم تحرير البلاغة؟ وكيف نشخّص -الآن- فكرة هيمنة المعارف السابقة عليها؟ ينطلق المؤلّف في نيّة التحرير من الخطاب البلاغي القديم؛ بمعنى أنّه في نيّته القارئة، والباحثة، والناقدة، لا ينوي العبور على ذلك الخطاب بوصفه جثة هامدة، أو تراثا غابرا لا جمال، ولا رؤية فيه؛ إنّه يريد في قراءته الوقوف عند الأهداف الآتية:

أولا: إن غاية التحرير تقع ضمن دائرة قراءة التراث، وهذا يعني أن المؤلّف يريد قراءة التراث من خلال الاصطفاف مع السعيِ الأبستمولوجيِّ الذي يراهنُ على اعتمادِ مناهجَ علميّةٍ، ومقارباتٍ موضوعيّةٍ قادرة على محاورة التراثِ ونقده، كي يبني من خلالِ المحاورة قاعدةً ماديّةً طرفاها النقدُ والاستشرافُ المستقبليُّ لينطلق من خلالها إلى المستقبل، فهو بهذا الاصطفافِ اختارَ رؤيةً واضحةً همّها مقاربةَ التراثِ من دونِ تقديسٍ لهُ، والإفادةَ من منجزهِ المهمّ، فضلًا عن الانفتاحِ على منجزِ الآخرِ الذي له صلةٌ بالحياةِ. 

ثانيا: أن تكون القراءة معرفيّة خالصة لوجه البلاغة تستند في مقدماتها، وحواراتها، ونتائجها إلى الرغبة المنفتحة على ما يعرفه الإنسان من خبرات ومهارات؛ تلك القائمة على التعلّم والاكتساب والعمل، ومحاولة الاتصال لردم هوّة النقص التي تراكمت من خلال العصور. 

ثالثا: إنّ مقترح القراءة البلاغيّة الجديدة معنيٌّ بخطابات جديدة، ورؤى مختلفة، ومظاهر شاخصة، وظواهر حيّة جاءت بها الحياة المعاصرة، وهي تواجه مشكلات استيعابِ الحداثةِ، وما بعدها، وفهمِ منطلقاتِها، وتحليلِ أطرِها، وتحديدِ المسوّغاتِ لها، من دون أن تتنكّرَ إلى المضيءِ من التراثِ.  

رابعا: تريد القراءة أن تتحرّر من عقد الأمس، وتتقصّد في فهم التراث بعيدا عن هيمنة الذاكرة الأحاديّة التي تتحكمُ في المواقف العلنية من التراثِ بوصفها سلطة رابطةِ بينَ الماضي والحاضرِ عادةً ما يختلفُ فيها المتصدون لقراءةِ التراثِ، فيّتخذونَ مواقفهم منه تبعًا لدرجةِ الوعي بهِ تقديسًا، أو نقدًا، أو قبولا، وهذا ما وجدتُه في قسمٍ من الكتبِ الجديدةِ التي أعادتِ التفكيرَ بسؤالِ التراثِ وسؤال البلاغة. 

خامسا: تريد القراءة أن تكشف عن تحالفات سابقة لم تقدّم للبلاغة شيئا لعلّ من أهمها؛ تحالف البلاغة مع النقد، والتفسير، والفصاحة، وقد قدّمت تلك التحالفات المتحالِف على البلاغة نفسها ليكون له الصدارة وللبلاغة التأخير.

سادسا: تريد القراءة أن تبحث عن تحالفات جديدة تبدو البلاغة فيها مستوفية لشروط استقلالها نحو تحالفها مع السيميائيّة، وعلم الاجتماع، والمعرفة، والدراسات اللسانيّة، وغيرها من المنهجيّات التي تتسيّد اليوم خارطة الثقافة والأدب، ورأى المؤلف أن تلك التحالفات تبعث روح الأمل في البلاغة، وتعيد إنتاج المعرفة كي تكون في سعيها المتواصل استكمالا لوجود لا يمكن إنكاره. 

سابعا: تريد القراءة أن تحرّر البلاغة على مستوى المفهوم، والأدوات، والوظائف، وهذا صلب فاعليّة هذا الكتاب المبني على قراءة الماضي وتأمل الحاضر، والنظر إلى المستقبل بعين ناقدة، وصولا إلى بدء التحرير من المفاهيم بوصفها حاضنة المصطلحات؛ تلك التي تريدها البلاغة الجديدة أدوات الإجراءات مع وقف الاعتماد على الذاكرة التي ظلّت تشحننا بوعي مزيّف طيلة قرون، فالتحرّر من المفاهيم يعني البحث عن مفاهيم جديدة تنسجم مع البلاغة مصداقا وتجربة، والبلاغة اليوم لم تعد حبيسة الذاكرة في الفهم، والتأمل، واستخلاص النتائج؛ لأنها امتلكت زمام أسئلتها التي ستأخذ بها لتكون مدخلا لتحليل الخطاب، وهي تستعين بخطابات بديلة غير التي تعودنا عليها. 

  والآن لندقّق النظر في عنوان الكتاب (تحرير البلاغة) وعنوانه الموازي (بحث في الذاكرة) لنكتشف أن تحرير البلاغة الذي وقفنا عنده يساوي ويوازي في الفهم والإجراء البحث في الذاكرة، فما هي الذاكرة التي تولّى مؤلّف الكتاب تحليل وجودها في العنوان والمتن معا؟.

   يراد بالذاكرة بالإحالة على الخطاب الفلسفي الإسلامي القوّة الحافظة لصور المخيّلة، وهذا ما لا يريده المؤلّف، فهي بحسب تعريفه المسؤولة عن تصميم وقائع حياتنا، ورسم معالم وجودها، فهي ليست التراث، بل هي مرحلة زمنيّة آتية بعده لها خصائصها، وميزاتها، ووظائفها، فهي متواصلة، وتعتاش على الأسس المعرفيّة التي تغذّي الحياة، وهي من وجهة نظر أخرى للمؤلف تتولّى شرح التراث لتقدّمه بصور مختلفة؛ أي أنها تستعيده بحسب الحاجة؛ فهي وسيط بيننا وبينه، وهي وعينا المستمر بالماضي.

   ممّا سبق في حدود أفكار الفقرة السابقة يبدو أنّ المؤلف تجاوز المفهوم القديم للذاكرة بوصفها أرشيفا للحفظ، عادّا وجودها المعاصر في الصميم من الفاعليّة المفضية إلى اقتراح ثقافة جديدة، بعد أن وضع حاجزا نفسيّا بينها وبين التراث قيّد فاعليته المتّجهة نحو الماضي، فالذاكرة عند المؤلف فضلا عمّا ذكر ليست الماضي بل هي محاولة الارتداد المستمر إليه، من هنا وجد المؤلّف الذاكرة بوصفها صياغة بشريّة للأحداث التاريخيّة؛ فهي صنيعة يقترحها الإنسان بناء على رغباته الأيديولوجيّة، وموجهاتها المعرفيّة؛ ولهذا صارت ملكا للجماعة على الرغم من إنتاجها الفردي، وهي بحسب تصوّراته أشبه بالمتخيّل؛ أي أنها ليست متخيلا بل تشبهه في تكوين رؤية تخيّليّة تصوغ المرئيّ، والمخفيّ من فضاء المادة المسرودة نثرا، أو شعرا، أو فنّا آخر من فنون الصوغ التي يُعتمد فيها التخيّلُ ذو الحساسيّة العالية التشكيل مقرونا بوصف الواقع، وتشكيل ملامحه تشكيلا فنيّا يمنح المكان جماليّات بوح تأخذ المتلقي إلى ضفاف تصوّر شفيف؛ ولهذا وجد الفرق بين الذاكرة وبين التراث الذي هو خزانة من النصوص، والمعارف تتولّى الذاكرة بمفهومها التقليديّ تقديمها بوصفها الفهم المتراكم للماضي.

  وإذ ينطلق المؤلّف نحو هدفه في مقترحات تحرير البلاغة، فإنّه راغب في تغيير مسارات البحث من التقليد إلى التحديث وفي ذهنه أنّنا لم نعد نملك القدرة على الاسترخاء، والصمت في ظلّ التحولات الخطيرة التي أصابت وتصيب العلوم والمعارف في المفهوم والإجراء والوظيفة، من هذه المثابة اقترح المؤلّف تحالفات جديدة للبلاغة تأخذ بها نحو التخصص المعرفي، والانفتاح على الهوية نحو آفاق جديدة، من تلك التحالفات: تحالف البلاغة مع علم الاجتماع؛ واستثمار معطيات ذلك العلم لصالح الدرس البلاغي بعيدا عن الفكرة المجازيّة: الجماليّة ولا سيّما أن الكثير من مصطلحات البلاغة العربيّة تنحو منحى اجتماعيّا مثل الاستعارة، والكناية وغيرهما من المصطلحات التي تمتلك خزينا اجتماعيّا انفتح على الحياة العربيّة بتقلباتها وتحولاتها، وصولا إلى إيجاد علم البلاغة الاجتماعي، ولنا في تراثنا وقفات ربطت بين البلاغة وخطابات المجتمع رائدها الجاحظ (255هـ) الذي وقف عند شكل الوظيفة الاجتماعيّة للبلاغة والأدب، وهذا ما يتمثل الآن في بلاغة الجمهور التي بدأت تتغلغل في وسط الدراسات الحديثة مؤكدة أهميّة مقولاتها وإجراءاتها، فضلا عن البلاغة النقديّة في توجهها نحو نقد الهيمنة من خلال الوعي بالتطوّرات الاجتماعيّة، والتحوّلات التي تصيب المجتمع نفسه، في ممارسة نقد الأيديولوجيا وفهم ماديّة الخطاب، ووجود معرفة اعتقاديّة لها خصيصة السؤال وروح الانتقاد، ووضوح التسمية التي تتضمّن رمزا يحيل على متبنّيات اجتماعيّة، وتأكيد الأثر  الذي له سلطة التأثير الاجتماعي، مع ضرورة فهم الغياب، وتبيان أهميته في فهم الأفعال الرمزيّة وتقييمها بالمساواة مع فكرة الحضور، والأخذ بضرورة أن التفسير متعدّد المعاني البعيد عن توجّهات النخبة هو الذي يتقدّم على التفسير الأحادي النخبوي الذي يحيل دائما على سلطة المركز، فضلا عن أن البلاغة النقديّة التي اقترحها المؤلّف هي في الأساس أداء يتمتع بصفة الممارسة التي تمضي بوتائر التحول خارج وصايا المؤسّسة.

  كلّ ما تقدّم يتماهى مع الهدف من تأليف الكتاب في فرز هوية علم البلاغة، وإعادة إنتاج المعرفة البلاغيّة من خلال الانفتاح الثقافي العام على حوار يقبل بالرأي الآخر، ويفحص ما يمكن إعادة إنتاجه من التراث بوساطة فهم الذاكرة البلاغيّة، وتحرير المفهوم، والوظيفة، وطرائق إنتاج المعرفة البلاغيّة، والتحرّر مّما هو مقدس لا يمتلك شرط التقديس، وعندي أن المؤلّف امتلك رؤية واضحة، وفهما دقيقا لما يقول، فهو ليس بالمغامر في عرض الأفكار، ولا بالمتساهل في قبول الجديد كلّ الجدّة، فقد خاض التأليف في بلاغة الإقناع في الخطاب النقدي القديم، وبلاغة الجمهور، وإشكاليّات الحجاج  في المفهوم والتوصيف، وفي معرفة البلاغة، فضلا عن إسهاماته في نشر عدد من الدراسات والمقالات التي لها صلة بمشروعه البلاغي المنطلق من الحاضنة الأكاديميّة المفكّرة.

   إن السؤال المهم الذي يدور في فلك هذه المقالة: ماذا عن البلاغة القديمة؟ لا أشك أبدا في ضمورها، وانحلالها، وتباعد مقترباتها، فهي خطاب راسخ في الذاكرة سواء أكانت صائغة التراث أم أرشيفه لها صلة بالماضي والحاضر في ظلّ وجود القرآن الكريم الذي غذّى ويغذّي بجمال عباراته وإعجازه التلقي المعاصر، لذا فإن قراءة تلك البلاغة، وإعادة إنتاجها، وسبر أغوارها وتحديث رؤاها إسهامة تحاول أن تصل بين قراءتين تتعلقان بالماضي والحاضر، مسوغة لنفسها فتح نافذة الحوار مع ما مرّ بنا وما يحيطنا، وهذا يعني من وجهة نظري أنّنا في فضاء البحث والتلقي سنمتلك خطابين بلاغيين؛ خطابا قديما قدم الثقافة العربيّة، وخطابا معاصرا يتصل بثقافتنا وثقافة الآخر هو خطاب البلاغة الجديدة المحرّرة.