علي المرهج
لا ترتبط الفلسفة بالتمجيد، بحكم طبيعة القول الفلسفي القائم على النقد والشك المنهجي في المعارف الموروثة، وإن كان هناك ما يعتقد أنه تمجيد في الفلسفة، فهو لا يشبه التمجيد في العقيدة أو الأيديولوجيا، لأن التمجيد فيهما يقترن بتمجيد الأشخاص، أو الذوات، بينما التمجيد في الفلسفة يقترن بتمجيد الموضوعات لا الذوات.
صنفت الفلسفة بحسب قول (كولردج) إما أن تكون إفلاطونية أو أرسطية، وفي هذا القول بعض من تمجيد، ولكنه ليس تمجيدًا لإفلاطون أو لأرسطو، ولكنه تصنيف للفلسفة على أنها إما أن تكون مثالية بحسب ما ذهب إفلاطون أو واقعية بحسب ما يمكن فهمهم من فلسفة أرسطو، التي أنزلت مثال إفلاطون للوجود الطبيعي لتقترن العلة الصورية (المثال) مع العلة المادية (الواقع)، فلا يمكن لنا تصور صورة الكرسي خارجًا عن علته المادية (الهيولى).
قد يُقال عن ابن رشد أنه كان يُمجد أرسطو، حينما قال عنه إنه «الرجل الذي كمل عنده الحق»، ولكن تمجيد ابن رشد لأرسطو لم يكن على سبيل جعل ابن رشد عقله رهين فلسفة أرسطو، ولكنه لشدة ما وجد فيها من نزوع لتحرير العقل في البحث عن الحقيقة عبر معرفة العلل أو الأسباب القريبة وعلتها النهائية في الوجود التي تنتهي بالصانع، أو المحرك الذي لا يتحرك في فلسفة أرسطو، ولكن ابن رشد لم يتبع أستاذه أرسطو «حذو النعل بالنعل» كما يصفه (ابن سبعين) لأنه جعل من محرك أرسطو صانعًا ومخترعًا
للوجود.
لم يكن هناك فلاسفة في تاريخ الفلسفة رهنوا عقلهم بيد آخر، وجعلوه يُفكر بالنيابة عنهم، وكل ما يُفهم منه أنه تمجيد عند جل الفلاسفة إنما هو تمجيد للفكر لا للمفكر.
كل قارئ للفلسفة يمجد فيلسوفًا بعينه ويعتقد أن في أطروحات فيلسوف ما خلاصا نهائيا للعالم في حال تبنيها، إنما أوقع نفسه في شرك الأيديولوجيا، لأن الفلسفة بحث عن الحقيقة لا إدعاء امتلاكها.
ليست من مهمات الفيلسوف الدفاع عن النزعة الإلحادية ولا تمجيدها، وأغلب الرؤى في إتهام الفلاسفة بالإلحاد إنما جاءت من رجال الدين المضادين للفكر الفلسفي، لأنه يمنح العقل حرية التفكير التي لا يرتضونها لأتباعهم كي يبقوا أوصياء على عقولهم، يُمجدونهم من حيث لا يستحقون.
من ميزات الفلسفة أنها ضد التمجيد بكل تمظهراته، فلا يقبل الفلاسفة تمجيد الأشخاص، وكذا الأمر في الدين الإسلامي ـ على سبيل المثال ـ فلا يصح التمجيد إلا لله سبحانه وتعالى، ولكنه تمدد فاتسعت مساحة التمجيد والتقديس في الحياة الدينية والاجتماعية المعاصرة!.
ترتبط الفلسفة بالتمرد لا بالتمجيد والتمجد، وقد تلتقي في نزعتها التمردية مع نزعات التمرد الأولى عند الأنبياء والرسل، الذين تمردوا على واقع مترد في مجتمهم، فكانت رسالاتهم السماوية هي الخروج عن السائد الذي يطوله التمجيد في مجتمعاتهم، ليخرقوا النسق الظاهر والمضمر، ويعيدوا إنتاج الفكر وتحدي الركود والتخلف ليأخذوا على عاتقهم أمر إيقاظ أمتهم.
يبدو أن مشكلة التمجيد مرتبطة بالأتباع من الذين يصنعون لذوات مفكرة وفاعلة في التغيير أساطير تجعلهم أشبه بـ «كلكامش» أو «أخيل» أو «أودسيوس» طالهم التقديس والتمجيد، لا سيما في الأيديولوجيات الإسلامية، وحتى العلمانية هناك أفراد لا يمكن لك المساس بهم لا نقدًا ولا قدحًا، لأنهم صاروا وفق أيديولوجيا مهيمنة، وكأنهم قديسون لا يأتيهم الباطل لا من أمامهم ولا من خلفهم، وصاروا «تابوات» و»خطوط حمراء» لا يستطيع أحد منا توجيه نقد لها ولبعض توجهاتها وسلوكياتها. لقد أسماه (حيدر حب الله) «التعالي عن النقد»، ومعنى ذلك «أن المقدس في الدائرة الدينية لا يُمكن نقده أو إبطال معطياته»، والحال ذاته ينسحب على كثير من توجهات الأيديولوجيا العلمانية.
ما يحصل في الأيديولوجيا عادة نزوع لفتح الأفق لدائرة القداسة من أجل «الاحتواء»، أي احتواء الديني والأيديولوجي لكل ما هو مقدس عندهم ليكون بمثابة «تفسير شمولي للعالم والحياة وتحولات العصر» لأن «الماضي في الحاضر» بتعبير (فهمي جدعان)، التاريخ يحتوي الحياة بكل الأزمنة والماضي هو التأصيل لحقيقة ما يحصل في الحاضر وسيحصل في المستقبل.
لم يفرض الفلاسفة ولا ما قدموه من رؤى فلسفية على من يقرأ لهم ويثق بما يكتنزون من معارف تمجيدهم، لأن الفلسفة لا تستلزم من القارئ أن يكون مُقلدًا ولا تباعًا، ولا إلزام فيها لمن يُقبل على سبيل المثال على فلسفة إفلاطون أو أرسطو أو غيرهم من الفلاسفة أن يكون مُقلدًا لفلسفتهما ولا لغيرهما من الفلاسفة، ولا مسؤولية أخلاقية أو شرعية تجعل القارئ لهما في حال رفضه لكل فلسفة الفلاسفة أن يشعر بأنه ارتكب ذنبًا ما قد يُحاسب عليه يوم
القيامة.