ميادة سفر
أصبح العنف جزءاً أساسياً من حياتنا اليوميَّة، نقرأ عنه في الصحف ونتابعه عبر شاشات الأجهزة المحمولة، ونسمع عنه أخباراً يومية في الراديو والتلفزيون، فضلاً عن أفلام السينما والمسلسلات التلفزيونية المترعة بمشاهد العنف والقتل، وصولاً إلى ألعاب الكومبيوتر التي تتضمن كماً كبيراً من القتل والتدمير والأذى والتي يلعبها الكثير من الأطفال والشبان الصغار، فقد انتشر العنف بشكل كبير في الحياة اليومية للأفراد، لدرجة أننا تعودنا وتآلفنا مع وجوده وتقبلنا حضوره بيننا، إلى درجة بات مرخصاً لنا تسميته بالعنف اليومي.
كثير من حالات العنف التي نشاهدها وتمر أمامنا وأحياناً نمارسها وتمارس علينا من دون أن نعيرها أي انتباه أو اهتمام، وكأنّها تحولت إلى تقليد وعرف مقبول في تعاملاتنا اليومية، من حوادث التنمر الذي انتشرت بشكل كبير بين مختلف أفراد المجتمع، والمشاجرات بين الأطفال والمراهقين والشبان في الشوارع مع ما يتخللها من ضرب وتعنيف واستعمال ألفاظ نابية وشتائم، والعقاب الجسدي الذي يتعرض له الأطفال من قبل ذويهم، ولا ننسى العنف الذي نشاهده في الملاعب أثناء المباريات الرياضية سواء بين الجمهور أو فيما بين اللاعبين مع بعضهم أو تجاه حكام المباريات، هذه وغيرها الكثير من حوادث العنف المتكررة التي يبدو أنها تترسخ في ثقافتنا وتتغلغل في الحياة اليومية للأفراد ويخشى أن تصبح يوماً ما عرفاً مكرساً ومقبولاً في الذاكرة الجمعية للمجتمعات، هذا إن لم تكن قد أصبحت كذلك!.
علة جهة أخرى، كثر الحديث وما زال مستمراً منذ عقود عن العنف الذي تعرضت وتتعرض له المرأة في مجتمعاتنا سواء في المحيط الضيق "الأسرة" أو في الحيز الأكبر المتمثل بالمجتمع، والذي أبقاها محط مراقبة وتنمر وتعنيف مهما ارتقت من مراتب ومناصب ومستويات ثقافية وفكرية، ويبدو أنّ الحال سيبقى على ما هو عليه طالما بتنا نتقبل تلك الممارسة التي أشرنا إليها والتي تحدث بشكل يومي، ذلك أنّ التربية القائمة على العقاب الجسدي للأطفال لا يمكنها أن تنتج إلا أجيالاً مريضة نفسياً وقابلة لسلوك تلك الطرق العنيفة في علاقتها مع غيرها، ولأن المرأة الكائن الأكثر استضعافاً في مجتمعاتنا ستظل تلك العقلية متمترسة ومتحجرة في سلوكها تجاهها.
هناك الكثير من المؤثرات البيئية التي تعتبر عاملاً مساعداً على انتشار العنف بمختلف أشكاله ومعانيه، ومن ثم تغيير سلوك الإنسان تبعاً لتلك الظروف والعوامل والمتغيرات، ففي حين ربط البعض بين التجمعات والحشود والجماهير وبين ازدياد العنف، بمعنى أنه حيث تجتمع مجموعة من الأرجح أن يحدث شكل من أشكال العنف مثل الذي يجري أثناء المباريات الرياضية، أو الألعاب الجماعية التي يقوم بها الشبان، إلا أنها لا تشكل العامل الوحيد في انتشار العنف بل ثمة عوامل أخرى قد تكون فردية من شأنها التشجيع على ممارسة العنف، ثمة علاقة وطيدة بين الأسلحة والعنف مثلاً في العلاقات الشخصية، فمجرد وجود سلاح في حوزة أحد الأفراد أثناء أية مشاحنة بين طرفين يكون كفيلاً وكافياً لتبادل الأعمال العدوانية ومن ثم استخدام السلاح أو الاستقواء به، وهذه حالات كثيرة تشاهد يومياً في شوارعنا لنماذج من أفراد استعانت بهم السلطة أثناء الحروب و النزاعات.
حان الوقت لإعادة النظر في الكثير من جوانب حياتنا اليومية، وفي المنظومة القيمية والأخلاقية والتربوية التي تحورت في العقود الأخيرة، لنتمكن من انقاذ ما يمكن إنقاذه، وتجنيب عيوننا وآذاننا بعضاً من التشويه اللفظي والبصري، برفض الممارسات التي تتحول إلى اعتيادية في حياتنا، ونبذ أولئك الذين يستخدمون جسد المرأة للتشهير والإذلال، إلا أنها وبكل أسف، ربما أضغاث أحلام ما دمنا نستورد أدوات التعنيف ومعداته ونبثها عبر الشاشات وفي الشوارع، بشكل يتجاوز مواقف فردية إلى أخرى جماعية تتمكن من إعادة توجيه الأفراد وتربيتهم وسلوكهم، وتؤمن بالإنسان وبضرورة القضاء على أشكال العنف الجسدي واللفظي كافة، ولكن يبدو أننا مستمرون في ترديد القول المأثور: "لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي".