هي كذلك، أبوذية مبهرة، جاءت رقراقة من فم شاعر ومطرب أهوازي، لسوف أقف عنده في مقالة أخرى. إنه موسى ثامر الزركاني، ذو الصوت الرخيم والأداء البديع. الأبوذية التي أحدثكم عنها تقول: يالمسجل بعجب الذنب ولفاي.. يچنه استجن عدمن بعد والفي .. يشبه الشمس لا ظل الك ولفي.. تصد نيران نظراتك عليه. دعوا عنكم الشطرين الأخيرين والقفلة، وابقوا مع الشطر الأول الذي صيغ ببلاغة عميقة، فالشاعر يخاطب المحبوب قائلاً: له إن اسمه مسجلا في "عجب الذنب" الخاص به، وعجب الذنب هو ما يسمى العصعص، أي العظمة الصغيرة التي تقع في نهاية العمود الفقري، ومنها يتكون الإنسان ويتجسد شيئا فشيئا بعد خمسة عشر يوماً من تخلقه في البويضة داخل الرحم. ولربما يستدل المؤمنون بنظرية تشارلز داروين في الارتقاء الطبيعي في كون "عجب الذنب" من متبقيات المرحلة القردية، التي غادرها الإنسان من ملايين السنيين.
لكن الغريب حقاً قولهم إن العظمة نفسها هي الوحيدة التي تتبقى من الانسان بعد موته، وتظل محتفظة بالحمض النووي (dna) حتى يوم البعث، وحينها يستنبت الناس بأمر الله من "عجب الذنب" المتبقى منهم، حتى لكأنه البذرة الإلهية الأولى. ينقل المحدثون عن الرسول (ص) قوله: "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب". وفي رواية أخرى:" كل ابن آدم يبلى إِلا العَجْبَ"، وحين سألوه عن ماهيته، قال إنه "مثل حبة خردل، منه تنبتون".
بلاغة صورة موسى ثامر الزركاني إنما تكمن هنا تحديداً، فالعاشق يعلم أن اسم محبوبه كتب على هذه العظمة العجيبة، من قبل أن يتكون جسداً، ولسوف يبقى الاسم محفوراً بعد أن يبلى منه كل شيء.
وبالضرورة، سوف يخلد حبه معه يوم يبعث من قبره، فياله من ارتباط أزلي. هنا، يلزم الانتباه إلى أن حفر اسم المعشوق على "عجب الذنب"، بوصفه تمثيلاً لارتباط عشقي أبدي، لا يشبه ارتباط الزوجين اللذين تجمعهما القسمة والنصيب، ثمة اختلاف شاسع. أتذكر أنني قرأت في حكاية شعبية، أن وزيراً مر بساحل بحر، فوجد عجوزاً يجمع هذه "اللكلوكة" من الطين مع تلك، ويلصقهما ثم يرميهما في عرض البحر. أثار ذلك فضول الأمير وسأله عما يفعل، فأخبره العجوز بأنه ملاك موكل بتزويج الناس، وأن كل طينتين يلصقهما تمثلان رجلاً وامرأة.
حينئذ، طمع الملك في أن يساعده الملاك بالاقتران بامرأة كان يحبها، وهو ما حصل. لكن، بغض النظر عن أي شيء، يكمن اختلاف هذا النوع من الارتباط عما تخيله موسى ثامر الزركاني، في أن اسم المحبوب في أبوذيته مسجل في "عجب الذنب" بوصفه "ولفاً" ومعشوقاً قبل أن يتكون القلب، وسيبقى كذلك بعد فناء الجسم.
لذا، ليس الأمر مجرد اقتران جسدي ينتهي بالموت أو بالفراق، انما هو ارتهان أبدي لا فكاك منه، ارتباط مكتوب على "عجب الذنب"، وشأنه في هذا شأن الحمض النووي، فتأمل جعل الله اسمك في "عجب ذنب" أحدهم أو إحداهن.