القراءة السياسيَّة المتحيّزة

آراء 2023/06/12
...

  رعد أطياف

من الطبيعي أن يتوجّه عموم القرّاء إلى توثيق معظم ما يطالعوه من كتب؛ كالاقتباس، والتهميش، والتعليق، والبعض الآخر يذهب أبعد من ذلك من خلال عرض مضمون الكتاب.
لكن في كتابات نيتشة، وفلسفته المثيرة للرعب، قد يبدو الأمر مبتورا لو توقف على اقتباسات أو ما شابه ذلك، كما لو أنك تقرأ نصاً يعاني من التصحيف.
لقد نٌقِشتْ حروف هذا الفيلسوف بعناية فائقة بلا حشو أو تكلف أو إسهاب في غير محلّه، عبر الاستعانة بالكتابة الشذرية المتمرّدة على الكتابة النسقية.
إما أن نقرأ كل كتبه بعناية وتركيز شديدين (لأنه من أكثر الفلاسفة إساءة للفهم) أو نبقى متلقّين سلبيين نمضغ بعض الاقتباسات المريبة التي يتناقلها رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
ليس الأمر مريباً وسيئاً إلى هذا الحد أن نقتبس من شذراته فائقة الجمال والعمق، لكنّه يقلل من حالة الغبطة التي تجتاحك، والجروح التي يفتحها في فكرك! والارتعاشات المُحببة التي تعتريك و"النشوة المباركة" التي تستوطن أعماقك وهو يستنطق الأصنام ضرباً بالمطرقة! تلك الأصنام التي هي أكثر من الحقائق، مثلما يصفها هذا الفيلسوف البركاني، أو ربما عجول كثيرة، كائنات مُجَوًّفَة لا يصدر منها سوى خواراً يحسبه العبيد لغزاً وطريقة سرّانية.
إن قراءة مقدمته التالية هي بحكم الضرورة والمران العقلي المستمر، بالنسبة لي كقارئ يحاول فهم نيتشه، أعني بها مقدمة كتاب "نقيض المسيح" التالية: "هذا الكتاب لقلّة من الناس فقط.
وربما لم يولد أحد من هؤلاء القلة بعد.
قد يكونوا من أولئك الذين استطاعوا أن يفهموا زرادشتي؛ وكيف لي أن أخلط بيني وبين أولئك الذين تٌهيّأ لهم منذ الآن آذان صاغية؟
بعد غد فقط هو زمني. فمن الناس لا يولد إلا بعد الممات.".
المشكلة في الأمر، كلما قرأت هذا الفيلسوف يتبيّن لي لست من هؤلاء القلّة، اللهم إلا حالة الشعور بالخجل التي تجتاحني، فالأمر يتطلب محاربين أشدّاء يخترقون سياجات الفكر الصلبة؛ فعل اقتدار من نوع خاص جداً، وليس سيرة ذاتية تُصَدَّر على أنها "فلسفة".
نيتشة يتهم الفلاسفة على أنهم يكتبون سيرتهم الذاتية بعنوان فلسفة!، ولذا لم يسلم من مطرقته فلاسفة كبار أمثال كانط، فهذا الأخير ليس سوى مسيحي عجوز في نظر فيلسوف المطرقة، وتنويع مُلَطَّف للمسيحية.
وبعبارة إسلامية: فلسفته لا تتعدى كونها علم الكلام؟!
فإذا كان حال الفلاسفة هكذا فما بالك بالقرّاء؟
يبدو الأمر أكثر مسؤولية مما أظن.
كيف أقرأ نيتشة وما حجم الاستنزافات(أو التنازلات) والعادات المألوفة لكي أندرج في عداد النوع الإنساني الذي يطمح إليه نيتشه؟ لا يوجد لدي جواب قاطع، كلما علي في الوقت الحاضر أن أحاول جاهداً قراءة نيتشة بلاقناع، بلا صور وثوقية تكبّل الفكر وترديه أسيراً.
ولا أخفي كم أحسد هؤلاء الذين استكانوا إلى فكرة مفادها بأن فيلسوف المطرقة سهل ورشيق، لا تعاني نصوصه من غموض، أو من تلك اللغة الباردة اللزجة التي يصفها نيتشة تهكماً على الألمان.
بيد أن مكمن الحيرة ليس في لغته الأخّاذة بقدر ما يعاني قارئها من قوة المصداقية والوضوح أمام نفسه ليتشرّب هذه الفلسفة، وأمام فيلسوف لا يشبه الفلاسفة على الإطلاق، وإذا ما وضعناه في سياق تاريخ الفلسفة سيبدو غريباً وشاذّاً، لكنّه يوجّه للفكر الغارق في القناعات ضربات موجعة.
هنا مكمن الحيرة! النص النيتشوي فتنة ماكرة ومزلزلة تضعنا أمام سيرنا الذاتية المظلمة وجه لوجه، من يتسيد على من:  زرادشت نيتشة أم العناكب السامّة؟
أبولو أم ديونيسوس: أخلاق النبلاء أم أخلاق الضعفاء؟
ربما نحتاج إلى تكوين فلسفي خاص لتسلّق هكذا قمّة.