أحمد عبد الحسين
اليوم أيضاً ككلّ يوم، مات أشخاص كثر لا أعرفهم ولم ألتق بهم، لكني لو التقيتهم لكانوا أخوتي.
من بين هؤلاء فيلسوف إيطاليّ اسمه نوتشي أورديني. لم يترجم له العرب حتى الآن. قرأت تواً شيئاً عنه، عن حياته واهتمامه بالشعر واللاهوت، وقرأت بالأخص عن آخر كتبه "نفع ما لا ينفع". والعنوان وحده يقول لي إن هذا الميت سيكون صديقي. ولأننا لم تسعفنا مقاديرنا في أن نلتقي هنا، فإذن في حياة أخرى.
كتبتُ مطوّلاً عن أهمية ما لا ينفع وكنت أرى في غير النافع كنز الشعر ومعدنه كما هو كنز الوجدان المؤسس للإنسان ومعدنه. لم تكن كتابتي بتأثير من أورديني لأني لا أعرف الإيطالية ولا أعرفه، بل بتأثير من أحاديث أئمة الإسلام وعرفائه أولاً، ثم تعرفت على هيدغر الذي خصص مساحة كبيرة من كتبه للحديث عن أهمية ما لا نفع فيه.
في كتابه "مدخل إلى الميتافيزيقيا" كما في كتابه الأكبر "الكينونة والزمان"، كانت هذه الفكرة حاضرة بقوة. أسلوب هيدغر المتمثل في حفره المتأنّي وتكرار السؤال مرة بعد مرة دون كلل يضفي على فكرته هالة تقترب كثيراً مما يتلبس النصوص الدينية من سرّانية تريد الانكشاف وتوحي به من دون أن تخسر شيئاً من غموضها. ولذا فإنّ هناك نحواً من الحقّ لدى منتقديه ممن رأى أن له مسحة دينية بيّنة كما جاء في كتاب الباحث محمد المزوغي "في نقد فكر هيدغر" الذي قال إن هيدغر ختم حياته بالبحث عن إله ينقذ العالم.
وبالفعل، لدى هيدغر بحث محموم عن منقذ، عمّن له القدرة على تخليص العالم من نفعيته، وإنقاذ الأشياء من قَدَرها الذي يجعلها مجرد أدوات للاستعمال. وسواء أكان يدرس جملة شعرية لتراكل أو يتفحص الحذاء الشهير في لوحة فان كوخ فإنه كان يروم الانتقال من الشيء ـ الأداة إلى الشيء الكاشف عن وجود، من المستعمَل لإنجاز وظيفة إلى حدوث الحقيقة في الشيء أو الغرض.
يعلّمنا الدرس الهيدغري أن الوجود نقيض التملّك، والانفتاح على العالم نقيض استعماله وأن الشعر والفن بل الجمال بعامّة في تلك الضفة التي لا أدوات فيها بل وجودات.
ومثله الفيلسوف الإيطاليّ الذي أغمض عينيه اليوم كان يجاهد في إثبات عدم نفع الأدب وأهمية ذلك اللانفع، ويدعو إلى عدم جعل المعرفة أداة لتحصيل منفعة. ثم يخصص فصلاً أخيراً من فصول كتابه لإثبات أن الرغبة في التملّك والحيازة وباء لا يقلّ عن الطاعون الذي فتك بالأمم. وسعيد ذلك الذي يغمض عينيه من دون أن يملك شيئاً.
كلّ يوم، يموت أناس لا نعرفهم ولكننا نحبهم.
كلّ يوم وكل ليلة إلى انقضاء الليالي والأيام.