جودت جالي
كانت الفكرة الشائعة عن قصص الغرب الأميركي (الويسترن) في بداية اهتماماتنا الأدبيَّة هي الصورة النمطيَّة التي رسمتها لنا قصص وأفلام هوليووديَّة تصوّر مغامرات في السهول البريَّة الشاسعة والجبال الوعرة، والمعارك مع الهنود الحمر. الطريف في الأمر أننا كنا نقرأ روايات وقصص ويسترن رائعة لكُتّابٍ كبارٍ دون أن نعرف أنها ويسترن، ونراهم أعلى مستوى من أن يكونوا مؤلفين لقصص من هذا النوع. لم يقل لنا أحد من المترجمين وممن تناولها بالنقد أو التعريف بأنها ويسترن.
توجد كتب وقصص لجون ستاينبك وهوارد فاست وجاك لندن وشيروود أندرسن وويلا كاثر وأرثر ميلر وغيرهم هي الويسترن بعينه في أسمى نماذجه. من جانب آخر وُجد منذ البداية كتاب محترفون، تخصصوا بقصص الويسترن (ويوجد اتحاد أدباء خاص بهم) وخلقوا تياراً أدبياً يتمتع الكثير من قصصه بمزايا فنيَّة وفكريَّة وقد قرأنا منهم للويس لامور، وإلمور ليونارد، ول. رون هبارد، وزين ﮔري وغيرهم. ترى ما الذي يميز قصص الويسترن ويمنحها جاذبيتها؟ متى يعدّ النص القصصي ويسترن تحديداً؟ وكيف يختلف عن نص تدور أحداثه في الغرب الأميركي كذلك ولكنه ليس ويسترن؟
يقول وليم توماس: إنَّ “التاريخ الأوربي كله يتحدث عن الأباطرة والملوك والملكات، من تزوج من، ومن أعدم من، وما كان دين ذلك الأمير أو الملك، وأي ملك شنَّ حرباً على أي ملك، فيما لم تكن للناس البسطاء تلك الأهمية. لكن عبر الأطلسي تختلف القصة، حيث السرد العظيم للتاريخ، أو في الأقل التاريخ المكتوب بصيغة الأسطورة، يديره الناس العاديون، تلك الحشود الفقيرة من الناس الذين عبروا المحيط بحثاً عن حياة أفضل، وتركوا عُقَد وضاعتهم الطبقيَّة على مشارف القارة الأميركيَّة وانخرطوا في خلق بلد جديد لهم، حتى لو كان هذا الخلق يتطلب الدخول في أعماق بريَّة الغرب الموحشة وخوض المعارك وكسب قدم من الأرض بعد آخر بدمائهم. الناس العاديون هم من فعل هذا ليس لأنَّ ملكاً طلب منهم أن يفعلوه، وليس لإعلاء مجد إمبراطور، ولكن لأنهم أرادوا حياة خاصة بهم وبيتاً ملكهم”(1)، في هذه الفترة التي اشتبكت فيها المخاضات الوطنيَّة والصراعات الفرديَّة ومصائرها، فترة الزحف نحو الغرب والتي كان فيها الفارس والحصان طليعة (وصارا رمزاً) مع تشكل البيئة والمحيط الريفي والرعوي والحضري الذي امتدَّ حتى النصف الأول من القرن العشرين حدث ما يملأ ملايين الكتب والمجلات بالقصص والتواريخ والصور.
حظيت قصة الويسترن الأميركيَّة كنص أدبي تتوفر فيه شروط السرد القصصي وليس مجرد صورة قلميَّة، منذ القرن التاسع عشر، بشعبيَّة واسعة وطلبٍ مجزٍ مالياً في المجلات والصحف، واكتسبت في القرن العشرين اهتماماً نقدياً وأكاديمياً وصارت تحظى بجوائز محليَّة وعالميَّة، أما الاهتمام الفني، رسماً وتصويراً وتأليفاً لاسكتشات فقد عاصر المسيرة نحو الغرب وملاحمها منذ بدايتها، والاهتمام السينمائي بما فيه شراء حقوق قصص الويسترن وتحويلها إلى أفلام بدأ منذ ظهور الفن السينمائي، وفي هذه المجالات كلها تطور تناول الأحداث والشخصيات إلى مزيد من الواقعيَّة والتقيد بالحقائق التاريخيَّة بمرور الزمن. نحن هنا نتحدث بشكل عام ولا نتطرق إلى تفاصيل تاريخيَّة معينة لهذا النوع الأدبي، مثلاً أسباب انحسار الإقبال عليه في فترة الستينيات والسبعينيات واختفاء المجلات المتخصصة بنشره وتحول الاهتمام من قصص وأفلام الويسترن إلى قصص وأفلام من نوع حرب النجوم. لكن نيل كامبل يقول إنَّ الويسترن لم يختف آنذاك من السينما بل توارى في أفلام أخرى وذكر أفلاماً قائلاً: إنها “أشباح ويسترن” (2).
لا بد لقصة الويسترن من أن تتميز بفترتها التاريخيَّة بالشخصيات والبيئة ومسرح الأحداث وطبيعة الصراعات عن القصص الأخرى حتى ولو كانت هذه تجري في الغرب أيضاً، وكلما كانت القصة أبعد تاريخياً نحو القرن التاسع عشر كانت ضمن ظروفها الطبيعيَّة أكثر، وإن لم يكن مستبعداً لكونها ويسترن أن تحدث في الزمن الذي ظهرت فيه السيارات ووسائل الحياة التي ميزت بداية القرن العشرين وما بعدها. فالويسترن، وهنا تكمن قوته وأسباب استمراره، لا يختزل بمشهد قتال بين رجل أبيض وهندي أحمر بل هو عن “الشجاعة والصحبة والولاء والتفاؤل وكل المبادئ التي يكرهها النقاد الآن” (3).
هذا القول طبعاً كتحصيل حاصل لهذه المبادئ فليس الويسترن قصصاً وعظيَّة مباشرة إذ لا يمنع أن نقرأ في سردياته الحديثة قصة كالتي اخترناها هنا والتي تصور كيف أنَّ ظروف البيئة القاسية والعزلة لها آثار على عقليَّة الشخصيات وسلوكها تصل إلى درجة الانحراف والوحشية(4).
1)The searchers review, William Thomas.
2) Post-westerns, cinema, region, west, Neil Campbell.
3) Century of Great Western Stories, edit John Jakes.
4)Close range, collected short stories, Annie Proulx.