ثقافة الشاشات

آراء 2023/06/14
...

 ميادة سفر
لم يقتصر المجال الرقمي على اتاحة أشكال جديدة من التبادل بين الأفراد، بل امتد إلى نواحٍ أخرى من بينها الكتابة والقراءة عبر شاشات الأجهزة الرقمية الحديثة، ففي حين كان اختراع الكتابة قفزة نوعية وحاسمة، إذ مكنت من حفظ المعلومات وتحرير الذاكرة الشخصية والجماعية
 ومن ثم مضاعفة قدراتنا الفكرية، وصولاً إلى اختراع الطباعة الذي غير وعزز العلاقة بين الزمن والذاكرة، ومكن من حفظ المعلومات بشكل أسرع، وأكثر اتساعاً بعد أن كان نسخ المخطوطات قديماً، يتم من قبل النساخين.
إلا أنّ المرحلة التي خلخلت علاقتنا بالكتابة وغيرت طريقة وأسلوب تعاملنا معها، كانت مرحلة النشر الإلكتروني التي ترافقت أو كانت من مستخرجات الثورة الرقمية والتكنولوجيا التي عمت العالم، فقد اعتبر البعض أنّ الانتقال من النص المطبوع إلى الإلكتروني بمثابة ثورة في أشكال الإنتاج وانتشار النصوص في الوقت نفسه، فالتغيير الحاسم كان في طبيعة العلاقة مع الأشياء المقروءة، إذ بات كل شيء متاحاً على شاشات الحواسب وأجهزة الموبايلات، ولم يعد ثمة مادة بعيدة عن متناول القارئ أو ممنوعاً عليه الاطلاع
عليها.
إن تحولات النص إلى الرقمي، سيترك تداعيات وآثارا ويحدث تغييراً على أحد الجوانب الأساسية في الثقافة وهي القراءة، وقد كان هذا الجانب محط نقاشات وتحليلات وتأويلات لعدد من علماء الاجتماع والفلاسفة والمؤرخين والسيميائيين، الذين أدلوا بتشخيصات متناقضة حيناً، ومتشائمة أحياناً أخرى، وفي مرات أخرى كانت متحمسة ومشجعة.
يلاحظ أن القراءة أصبحت سريعة، لأن إيقاع الحياة العصرية أصبح متسارعاً ويدفع إلى قراءة أكثر سرعة في ظل التدفق الهائل للمعلومات، إلا أنه وتجنباً للوقوع في إشكالات وأحكام متسرعة حول التدهور في المنظومة الثقافية، لا بدّ من التمييز بين مختلف أشكال القراءة.
في هذا السياق يطرح السؤال الذي يؤرق كثيرا من المثقفين: كيف سيكون مستقبل الكتاب والقراءة؟ يبدو أنّ السيناريو الأكثر رواجاً يشير إلى أنّ القراءة على الشاشة ستستمر في التطور مع استبدال تدريجي للقراءة المطبوعة، فالقراءة لا يمكنها وفق رأي البعض أن تختزل في الكتاب المطبوع الذي لم يعد اليوم إلا إحدى وسائل القراءة، ذلك أنّ ممارسات القراءة تتغير وتتعدد ويبدو أنها ستبتعد عن المدرسة التقليدية للقراءة التي ترى في الكتاب الورقي أكثر إمتاعاً ومؤانسة من برودة الأجهزة الإلكترونية.
في الوقت الذي يصرخ كثيرون محذرين مطالبين بالحفاظ على الكتاب الورقي على اعتباره شكلاً أكثر أهمية في تمتين الثقافة، ودعم دور النشر والإبقاء على المكتبات التقليدية التي بدأت أعدادها تتقلص بشكل لافت في السنوات الأخيرة أمام الصعود القوي للكتاب الإلكتروني، يرى آخرون أنّ الثورة الرقمية والنشر الإلكتروني، ساهما بشكل كبير في تغيير النظرة إلى الثقافة، من خلال جعلها متاحة لأكبر عدد من الأفراد، فضلاً عن سهولة الانتشار والاعلان عن الإصدارات الجديدة، والأهم تقييد الرقابة التي تفرض سلطتها على كل ما ينشر من كتب ودوريات، فلم يعد بالإمكان في ظل النشر الإلكتروني ممارسة تلك الرقابة بالشكل الذي كانت عليه من قبل.