أ. د. هاشم حسن التميمي
تستعين الدول المتمدنة والتي تسعى للتنمية الحقيقية بالبحث العلمي والتعليم الجامعي والشهادات العليا المنتجة وبراءات الاختراع المميزة، لتطوير مجتمعاتها والنهوض بمقدراتها وايصال ابداعاتها لدول العالم، لتعترف بدور هذه الدولة في بناء الحضارة وتواصلها مع ماضيها المجيد.
أنَّ تأمل مسيرة الحركة الفكرية في العراق، الذي كان رائدا بحضارته القديمة والإسلامية في عصور إشراقاتها العباسية، وما تلتها من عصور وعهود وفترات حكم متعددة الأشكال، نجد أنها لم تقترب من حدود وشؤون فئة العلماء وطبقاتهم، إلا ما ندر واحترمت خصوصياتهم، وعدت ذلك خطًا أحمر لا تتجاوزه. ونطالع عن التعليم العالي منذ مطلع القرن الماضي كان حصريا للطلبة الذين يجتازون الثانوية بجد وتميز، ولم نسمع عن طالب دخل الجامعة بدون شهادة البكالوريا، أو انه حصل على الماجستير أو الدكتوراه، وينوي الحصول على البكالوريا بعد ذلك، وقصص أخرى أغرب من الخيال، وليس آخرها (27) الف شهادة دكتوراه دمج، تم تمريرها على الرغم من الضجة الاعلامية، وبينهم شخصيات نافذة في مراكز عليا في دولتنا العتيدة. لم تغادر البلاد ووصلتها الدكتوراه وبدرجة امتياز. مع مرتبة الشرف. وتحت غطاء المظلومية وتسهيل الاجراءات صار الحصول على الدكتوراه أسهل من الحصول على شهادة الثانوية العامة، فتم تجاوز اختبار اللغة الانكليزية، والذي كان محنة تستوجب سهر الليالي لاجتيازه، وكذلك الحاسوب، وصار الامر اكثر بسهولة بمجرد دفع 25 الف دينار للحصول على شهادة نجاح من عشرات المراكز والامتحان التنافسي، لم يعد ضروريا للقبول الخاص، الذي تعددت قنواته وتحولت الدراسات العليا من دراسة نخبوية للمتميزين علميا إلى مكرمة سهلة المنال، وتضاعفت الاعداد من بضعة أفراد يتم اختيارهم بدقة وعناية إلى صفوف تضم المئات من طلبة، أغلبهم يمثلون الحد الادنى من التفوق والتميز، وهم فوق حاجة المجتمع والجامعات لتخصصاتهم وشهاداتهم، وحدثت مفارقات مضحكة تقود للتندر على الشهادات العليا، التي فقدت بريقها، وتعاني الآن وزارات الدولة من بطالة مقنعة اسمها حملة الشهادات، فأغلبهم لا يمتلكون الخبرة العملية في تخصصاتهم، ولا توجد امكانية لإعادة تأهيلهم أو إيجاد فرص عمل تناسبهم!. إن تقليص الدراسات العليا والغاء كل القوانين والتعليمات التي تنظر اليها بصفتها مكرمة، يعدانِ ضرورة وطنية، فضلا عن وضع شروط قاسية للقبول والاعتراف بالشهادات الوافدة، ووضع خطط علمية لكل قسم علمي يحدد حاجة المجتمع للتخصص الدقيق في المجالات كافة، وبغير ذلك تعلق الدراسات، وتجرى منافسة حرة، تمنح الفرصة المتساوية للعراقيين كافة. للتقديم أو التعيين بدون تمايز كما ينص الدستور، ويقبل الأفضل، ويرقن قيد من يفشل في استيفاء شروط النجاح، فقد نحتاج لعشرات بشهادات رصينة لخدمة المجتمع أفضل من عشرات الآلاف لخدمة توجهات سياسية وانتخابية. واكرر ماقلته ونشرته في صحف النظام السابق "امنحوا المكرمين كل شيء، إلا العلم فاتركوه لأهله"، وحينها طالب رئيس محكمة الثورة بقطع عنقي لتجاوزي وسخريتي من مكرمة القائد الضرورة، واعترف أن الظاهرة كانت محدودة، ولم تصل لهذا الحد المخيف، الذي أسقط هيبة الشهادة العليا، وقاد التعليم العالي لمزيد من الانهيار، بدلا من الرصانة والانبهار. ونكرر للمرة المليون "امنحوا المكرمين كل شيء إلا العلم فاتركوه لأهله)، ان كنتم صادقين في إعمار البلد وانقاذه من الجهل.