محمد غازي الأخرس
لا ألذ من أكلة الحمام المحشي، التي جرّبتها في زيارتي للقاهرة قبل سنوات. أي والله، جربت (جوز حمام) في أقدم مطعم يقدم هذه الأكلة جوار سيدنا الحسين (ع)، حسب تسميتهم، وكان طعم اللحم "يجنن"، لهذا التذذت به كثيراً، ولعنت قرار العراقيين الميثولوجي بعدم التقرب من أكل لحمه، بحيث أصبح يعيش بين ظهرانينا آمناً مطمئناً، ولم يدخل في حساباتنا التجارية، بل إن حتى من يصطاده من بيننا فإنما يفعل ذلك لمجرد المتعة. أتذكر أنني وأخي اصطدنا بعض المرات حماماً بمصاييدنا، ولما ذهبت بواحدة لأمي كي تطبخها لي رفضت ذلك وتذرعت بأنني سوف "اتهورش" إذا ما أكلتها.
بالعودة إلى خصامنا الميثولوجي مع لحم الحمام خلافاً للمصريين الذين يعدونه أكلتهم القومية، فإن الأمر يعود إلى الرفقة التاريخية بين الإنسان والحمامة، وقوة ترسخ رمزية الأخيرة الميثولوجية في الذهن العربي الموروث من مخيال الرافدينيين. ويعود الأمر إلى السومريين والآشوريين والبابليين، ففي قصة الطوفان يرسل أوتونابشتم، أو نوح الرافديني، الحمامة في اليوم السابع من الطوفان، لتستكشف الأجواء. وبعد جولة تعود خالية الوفاض. ثم يرسلها ثانية وثالثة حتى تعود في الأخير وهي تحمل غصن زيتون، في دلالة إلى أن المياه انحسرت وبدأت الأشجار تخضر من جديد.
من هذه الحادثة، قدس العراقيون الحمامة وتفاءلوا بها خلافا للغراب الذي أرسله نوح بعد إرسالها في المرة الأولى ولم يعد، لهذا يقول العراقيون في كناياتهم حين يرسلون أحداً لمعرفة جلية خبر ما: ها بشر حمامة لو غراب؟ على اعتبار تفاؤلهم بالأولى وتشاؤمهم من الثاني.
عدا هذا، في أسطورة الخليقة البابلية يشطر مردوخ الإلهة تيامات إلى شطرين، مؤذناً بنهاية العصر الأمومي، وبدء العصر الأبوي كما يرى علي الشوك وسواه. وحري بالانتباه هنا مدى التشابه بين مفردتي "تيامات" واليمامة، وثمة من يحيل الاسمين إلى جذر واحد هو اليم أو البحر، فالكون عند العراقيين القدامى كان في الأصل يما، أي مياهاً مالحة، تمثله تيامات، ثم حدثت المعركة بين مردوخ وتيامات لتنتهي بقتل الأخيرة وشقها إلى قسمين؛ قسم تكونت منه السماء، الذي يعيش فيه الحمام. والقسم الآخر، تكونت منه الأرض اليابسة، التي يعيش فيه الإنسان. أما المياه العذبة والمالحة فحبست في أماكن محددة حيث تعيش الأسماك. من هنا يمكن فهم خرافة الملكة الآشورية سمير أميس، فهذه الأخيرة رباها الحمام، وهي في الأصل نزلت من السماء في بيضة ألقتها السمكة السماوية المسماة (دريكتو)، وهي بذلك ابنة المياه النازلة من السماء، والتي احتضنتها كائنات السماء ورعاها أبناء الأرض. الخرافة تفيد بأن البيضة الإلهية سقطت في نهر الفرات، والتقطها الحمام حتى فقست لتلد منها طفلة سميت (سمو رمات)، ومن سماها كذلك هم الرعاة الذين عثروا عليها. الخلاصة إذن أن الحمامة مقدسة لدى العراقيين، لهذا يستكرهون تناول لحمها، كيف يتناولونها، وهي التي بشرتهم بانحسار الطوفان،
ولنا عودة.