ابراهيم العبادي
منذ انتهاء حرب تحرير المدن العراقية عام 2017، ثم انعقاد مؤتمر إعمار العراق، الذي استضافته الكويت شباط عام 2018، كان يفترض قيام القوى السياسية العراقية بإعادة النظر في شعاراتها ومواقفها وسلوكها السياسي وفقا للمعطيات المستجدة، ومنها توظيف التوافق الدولي- الاقليمي بشأن العراق بما يخدم صناعة سلامه داخلي ويحقق شرط الاعمار والتنمية المستدامة، تفشل البلدان كثيرا وتخسر فرصا للنهوض والتنمية ومغادرة الهشاشة والازمات، حينما تخفق القوى السياسية المحلية في قراءة الفضاء الداخلي والدولي ومتغيراته، بعيون فاحصة وعقول مفتوحة
وقد اخفقت القوى السياسية العراقية وقتها في التقاط الاشارات الاقليمية والدولية لدواعٍ ايديولوجية محضة، مما تسبب في صياغة معادلة حكم فاشلة بعد انتخابات شابها التزوير في ايار 2018، لتدخل العراق في نفق بائس من الفوضى والاحتجاجات والتدخلات الاقليمية والدولية السرية والعلنية، لم يخرج منها الا بصعوبة بالغة كادت تضع البلاد على شفير حرب أهلية جديدة.
في مستهل العشرية الثالثة التي اعقبت سقوط نظام البعث، تتوافر للبلاد فرصة نادرة لتعيد القوى السياسية بناء مواقفها وبرامجها وسياساتها، وفقا للمستجدات الراهنة محليا واقليميا وعالميا، بما يؤمن بيئة سليمة للشروع ببناء العراق ومعالجة ازماته الكبيرة الناشئة في معظمها من سوء توزيع الثروة وضعف التوافق الداخلي والتسابق المحموم على غنائم السلطة والارتهان للريع النفطي.
تتجدد الفرصة للعراق اليوم أكثر من ذي قبل للافادة من الانفتاح الدولي والاقليمي عليه، بعد ما تغيرت رؤى الدول الاقليمية عن الدور العراقي في معادلة الامن الاقليمي، فقد كان ينظر للعراق على انه واقع تحت هيمنة محور يمثل تهديدا لاغلب دول المنطقة، وكانت المراصد السياسية والاعلامية تتركز على العراق بكونه ساحة متغيرات عاصفة تنذر بشرر يتطاير على جيرانه وغير جيرانه، وفق هذه الرؤية ماكانت الدول الاقليمية تتعامل مع العراق الدولة تنفيذا لاهدافها وخططها ومصالحها، انما تعاملت مع عراق المكونات والاحزاب والزعامات المستعدة للانخراط في المحاور المتصارعة، بحثا عن الحماية والامن والدعم وتقوية مركزها الداخلي، وكان ذلك ينعكس على المعادلة السياسية العراقية بالمزيد من الاستقطاب والمعارك السياسية والحملات الاعلامية، وبما زاد من تشوهات صورة العراق الخارجية، وجعلته بيئة قلقة أمنيا، غير ناجحة اقتصاديا، مضطربة سياسيا،
كان الصراع الأمريكي الايراني وامتداداته واتخاذه العراق ساحة مفتوحة له، اكبر تهديد لاستقرار العراق ونمو اقتصاده، اليوم يتحول هذا الصراع تدريجيا إلى فرصة، في ضوء عودة التفاوض الايراني- الامريكي عبر الوساطة العمانية، وربما ايضا عن طريق القناة العراقية المفتوحة، التي توصل الرسائل والدولارات إلى طهران بموافقة امريكية وتشجيع إقليمي، المتغير الكبير الاول كان تحول العداء الايراني السعودي إلى تعاون، بعد وساطة عراقية مطولة، وجهد عماني سري وتتويج صيني، بما يعني انتفاء الحاجة تدريجيا إلى عد العراق خندقا من خنادق محور المقاومة كما كانت تريده بعض الاوساط، وبما كان يقلق جيرانه المتحفظين، الانفتاح العربي على سوريا وبدأ تفكيك عقد السلطة في لبنان وانطلاق رحلة السلام اليمني الطويلة، جاءت كلها من نتائج المتغيرات الجديدة، وقد أدرك صناع السياسات في عواصم عديدة، أن فوائد السلام والتهدئة والحوار والتعاون أجدى كثيرا من التصلب والعداء والحسابات الجامدة.
وهذه فرصة كبيرة لا ينبغي ان يفوتها العراق فهو صاحب المصلحة الكبرى في ممارسة دبلوماسية الابواب المفتوحة واستجلاب ثقة الاطراف المتعددة لبناء سلام اقليمي ضروري للغاية، يوقف التدهور المريع الذي عاشته المنطقة منذ عقود.
صيرورة العراق محور للعلاقات الايجابية، ونقطة التقاء مصالح الدول الاقليمية والدولية يخلق فضاءات رحبة لاعتدال سياسي عام وتفكير سياسي أهدأ، يحتاجه العراق كما يحتاجه الشرق الاوسط برمته، فقد اخفقت التنمية في اكثر بلدان منطقتنا، وتراجعت المؤشرات الاقتصادية وتزايدت التحديات التي تواجه الشعوب، بما فيها مشكلات الامن والسياسة، الامر الذي يحمل صناع السياسات والراي العام على التفكير مليا بأخطاء الحقبة الماضية واستخلاص الدروس منها، اكبر هذه الدروس هو فشل منطق الحروب والعنف في تغيير الارادات وفرض قيم وسلوكيات جديدة، كما يقول الدبلوماسي الايراني المخضرم وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف في مقال ومقابلة، أجريت معه في التاسع من حزيران الحالي واثارت عاصفة من الردود في بلاده، بالفعل فقد أخفقت الدول الكبرى والصغرى في توظيف الحروب والازمات الحادة في تحقيق أهدافها الأمنية والسياسية، حتى الكيان الاسرائيلي صار يشعر أن ضرباته وحروبه الاستباقية لم تحقق له ما يريد، كما أخفقت التنظيمات الارهابية في خلق فضاء فكري وسياسي جديد مفارق لما عاشته بلداننا والعالم سابقا، وربما نعيش الآن نهاية مرحلة وحشية وهمجية هذه الجماعات، وحيث تسقط جميع الاختبارات والخطط القديمة، تنفتح المنطقة على أفكار جديدة، قوامها التعاون الاقتصادي وتشابك المصالح والاستثمارات والتنسيق الامني والبيئي والتشاور السياسي، طبعا لن تتحقق نتائج مجدية لهذا التفكير الجديد سريعا، بدون بيئة سياسية وامنية مستقرة تعمل على بنائها اغلب الدول المؤثرة اقليميا والدول الكبرى صاحبة المصلحة، وفي مقدمة هذه الاهداف انتقال الدول الهشة إلى مرحلة من البناء والتنمية الشاملة لتتجاوز عجزها وضعفها هشاشتها، غير أن هذا التفكير لن يروق للكثيرين انه يواجه اعداء بسبب الجهل وغلبة الايديولوجيا السياسية، وبسبب مصالح دول تستفيد من الازمات والتهديدات والحروب وفي مقدمتها اسرائيل، وهناك قوى مسكونة بفكرة تغيير العالم وتحلم بفرض منطقها وشعاراتها من منطلقات دينية وغير دينية، وبعض هذه القوى يسعى لفرض نفسها على الجمهور بالصخب والضجيج والعنف، حتى لو ادى ذلك إلى تقويض فرص السلام والتنمية في المنطقة وتحميل الشعوب ويلات الفقر والتطرف والهجرة وخراب العمران، فمنطقها رافض لسلام البلدان ورفاهية الانسان وسكينة الأوطان، شعارها تغيير العالم بكل ما أوتيت من خطط وقوة، وكل ما يتعارض مع خططها تعتبره كفرا صريحا ينبغي قمعه واسكاته.
لا شك أن المنطقة مفتوحة على خيارات كبرى، والدعوة إلى السلام تستبطن سوء فهم عميق يربط السلام الاقليمي بالتطبيع مع اسرائيل، والحقيقة أن التطبيع مرفوض جماهيريا ودونه موانع عديدة، رغم الضغوط من خارج المنطقة واستعداد أنظمة وحكومات وقوى سياسية له، بناء السلام في المنطقة لا يشمل الدولة العبرية.