محمد صالح صدقيان
تجمع دوائر المنظرين السياسيين وأصحاب الفكر وورشات التفكير السياسي إلى أن المجتمع الدولي يمر بمرحلة مهمة ومفصلية تنعكس علی كافة مناحي الحياة في السياسة كما في الاقتصاد؛ والتكنولوجيا كما في الاجتماع؛ والتقنية كما في العلوم المختلفة.
لا أريد الاصطفاف إلى جانب من اعتبر «جائحة كورونا» كانت بفعل انساني وليس بشكل طبيعي بيئي؛ لكن هذه الجائحة، التي قال عنها علماء الاوبئة هي الاقل فتكا بالمجتمع الانساني، خلال المئة سنة القادمة؛ قرأتها ورش «تفكير المستقبل» علی أنها «علامة فارقة» في القرن الجديد؛ و»أن ما قبل كورونا ليس كما بعدها». هذه الجائحة شلّت الحياة، عطلت الاقتصاد، اثرت علی المطارات والتجارة والنقل والجامعات ودور العبادة وحصدت اكثر من 15 مليون شخص حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، التي تعتقد أن الحصيلة الواقعية لاعداد الوفيات تقدر بثلاثة اضعاف ماهو معلن!.
الازمة الاوكرانية جاءت محصلة لما كانت هذه الورش تتوقع حدوثه حيث دخل العالم في جو سياسي أمني اقتصادي جديد، رأی فيه البعض أنه لن ينتهي الا بحرب عالمية ثالثة تستطيع عودة الاوضاع إلى نصابها؛ بينما اعتبر البعض الآخر أنها الحرب العالمية الثالثة بذاتها، لكن علی مقاسات الالفية الثالثة، مستندين بذلك علی ارقام مقتل 15 مليون شخص، تشريد اكثر من 10 ملايين اخرين، عجز اقتصاديات جادة، انهيار برنامج تنموية وتقنية،
في مثل هذه الاجواء اندفع السياسيون وعلماء الاجتماع السياسي والاقتصاد السياسي للتفكير بصوت مرتفع عن «النظام العالمي الجديد»، وعن «قواعد اشتباك» جديدة ونظم اقليمية امنية واقتصادية وسياسية، بالشكل الذي لم يعد الحديث عن هذا النظام أمرا بعيدا عن الواقع؛ أو أنه من باب الترف الفكري أو التنبؤ للمستقبل؛ وانما يتم الحديث وفق معطيات ومؤشرات تتحرك في الميدان كما في الاروقة السياسية.
وزير الخارجية الايراني السابق محمد جواد ظريف كتب من واقع تجرب سياسية لأكثر من أربعة عقود في الميدانين السياسي والاكاديمي؛ وخاض خلالها مفاوضات نادرة في التاريخ السياسي العالمي مع الاعضاء الدائميين في مجلس الامن الدولي، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين اضافة إلى المانيا؛ وتوصل معهم لـ «الاتفاق النووي»، الذي أودع في مجلس الامن الدولي بالقرار المرقم 2231. هذا الرجل يعتقد أن الجهود التي استمرت ثلاثة عقود لم تنجح في اقامة نظام احادي القطبية يهيمن علی المجتمع الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي من خلال «الحرب» أو «الارهاب الاقتصادي» أو «امننة» الملفات الدولية؛ لكنها تركت معاناة شديدة وخسائر بشرية لاتغتفر وتسببت باهدار هائل للموارد البشرية.
ويستشرف ظريف في ملخص لمقال وعد بنشره قريبا لطبيعة «النظام العالمي الجديد» أن عصر التحالفات الدائمة قد انتهی، وأن المرحلة المقبلة تشي بتحالفات مؤقتة لأن اللاعبين الحكوميين وغير الحكوميين يتعاونون ويتنافسون ويتشاركون في آن واحد في مجالات مختلفة.
ويری ان نظرية «الحرب» فقدت استخدامها كإحدى الادوات في السياسية الخارجية؛ وفشلت هذه النظرية خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين من تحقيق اهدافها. فالنتيجة كانت اما بتدمير من قام بالحرب أو في احسن الاحوال الفشل بتحقيق الأهداف المعلنة.
ويعتقد ظريف ان المعادلة الصفرية لم تعد ممكنة في العلاقات الدولية؛ معربا عن توقعه بتفعيل منتديات ذات مكونات حكومية وغير حكومية تسعی للهيمنة علی النظم العابرة للحدود لتشكل الهياكل العالمية المرنة التي لا تحددها نتائج أو أطر مسبقة.
واختتم ظريف تلخيصه لاهم مؤشرات «النظام العالمي الجديد» وهو انتهاء مفعول نظريات «نهاية التاريخ» و»صراع الحضارات» و» العدو المفترض»، لأنها لم تستطع العمل في العالم الجديد لتحقيق الاهداف معتبرا «الفاعلية البشرية» هي العامل الحاسم في هذا العالم، علی الرغم من التطورات الكبيرة في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
ما ذهب اليه محمد جواد ظريف ليس بعيدا عن مراكز الدراسات الغربية والامريكية تحديدا التي تبحث في مالآت النظم السياسية العالمية، التي تتمحور وفق نظريات «الهيمنة» و»الاقتصاد العقابي» و»الامن» لكن باتجاهات مختلفة؛ حيث لم يكن امرا طبيعيا أو عاديا تسليم وكالة المخابرات المركزية الامريكية لـ «ویلیام برنز» الدبلوماسي الذي خدم في الخارجية الامريكية، حتی وصل لمنصب مساعد وزير قبل ان يتربع علی عرش اكبر مؤسسة بحثية امريكية عريقة كـ «مؤسسة كارنيجي».
يبدو لي أن سرديات السياسة الخارجية الامريكية التي اعتمدت خلال العقود الاربع الماضية كـ»الاحتواء المزدوج» و»ادارة الصراع» «ادارة الازمات» و»محاور الشر» و»دبلوماسية بينك بونك» و»الحرب الاقتصادية»، لم تعد وسائل قادرة علی التعاطي مع القوی المحلية الصاعدة باكثر من منطقة في العالم.
وفي الاطار ذاته؛ يسود الاعتقاد أن «اسرائيل» التي كانت آلية من آليات الصراع خلال القرن الماضي لم تعد صالحة ايضا خلال الالفية الثالثة في ظل قوی محلية اقليمية متنامية. وأن هذه «الالية» باتت عبئاً علی السياسة الامريكية علی وجه الخصوص، وعلی العالم الغربي بشكله العام.
ان الدولة العميقة في الولايات المتحدة ارادت الاستعجال بحل هذه الاشكالية عندما قادت وسوّقت لـ»صفقة القرن» والبرنامج «الابراهيمي» لـ «الانسحاب الامن» من هذه الالية «العبء». وعندما يتم الاصرار علی دخول النرويج أو السويد في حلف شمال الاطلسي «الناتو»، فهذا لا يعني استكمال القوة لهذا الحلف؛ وانما خطوة استباقية لتجميع قوة هذا الحلف، الذي يضم ثلاث دول نووية قبل أن تنفرط حبات مسبحته.
كنا في السابق نتحدث عن مجلس الامن الدولي. الآن لم يعد هذا المجلس يتصدر مراكز القرار التي تهتم بالامن والسلم العالميين ! بعد الازمة الاوكرانية.
انه عالمٌ متغير وارهاصات جديده تبدو واضحة تتحرك علی مسرح الاحداث في شرقه وغربه؛ كما في جنوبه وشماله.