هل كانت الثقافة على حق؟

ثقافة 2023/06/19
...

  ياسين طه حافظ

لم يكن مرور الذكرى المئوية الثانية لميلاد ماركس مروراً هادئاً. بل كانت الدراسات والكتابات في المناسبة أكثر ربما من المعتاد والمتوقع. كانت فرصة لتأكيد سلبيات النظرية وفرصة أوسع لتأكيد سلامتها والتشكيك بالأسباب الحقيقية لمآلها. أبرز التساؤلات كانت كيف لنظرية صائبة في نظر الكثيرين ومهمة حتى بالنسبة لمن لا يحبذونها، كيف ينتهي بدء تطبيقها بهذه النتيجة الدراماتيكية؟ وماذا غير «أننا توقعنا ذلك ولم يستمع لنا أحد...؟».

ما يهمنا الآن أن ما قاله ماركس ما يزال مهماً وما يزال مساعداً أو مرتكزاً لعدد من الفلسفات ومنها المخالفة، وليس لدارس في حقلي الاقتصاد أو الاشتراكية إلا أن يستند إلى الماركسية وماركس مرجعاً ليواصل بحثه. وان الماركسية التي صارت غاية، عدا كونها وسيلة، لأنصارها ما تزال أيضاً معبراً للوصول الى سواها. 

عموما، الثقافة الماركسية رسمت انعطافة في التوجهات الفكرية ونقلت نظريات مهمة من «اللامرئي» و «الافتراضي المتخيّل» إلى الارقام والنتائج. الميثولوجيا الآن في الزاوية. والفلسفة والتفكير فلسفة وتفكير كائنات بشرية وعن مصالحها.

هذا التحول في التفكير الفلسفي كان له أثره في أساليب الكتابة الجديدة. ولعل ديكنز ه. ج. ويلز وبرناردشو ثلاثة نماذج من ثلاثة أزمنة مما أنضجه ذلك التحول في النظر إلى الواقع والعالم.

نظر ماركس إلى التاريخ يتعقب الخطوات الرامية لتحسين حال الإنسان، من العبوديَّة إلى الشيوعيّة. هذا طريق شائك يمر عبر تحولات حضارية وتحول في القوانين والأفكار. الآداب والفنون دائماً مع المستقبل ودائماً تستقبل الجديد.. وتاريخ الادب خلال هذه المسافة الزمنيَّة تاريخ مدارس تختلف الواحدة عن الأخرى وقد نشهد في تحولها عنفاً. هكذا كانت نظرية المراحل، وهكذا كان ديالكتيك هيجل (العالق حتى الآن باللا مرئي). لدى ماركس، طردت المثالية بأدب وطُرِد “الوهمي” من هيجل، صيّره ماركس أساساً للصراع الطبقي. لقد “أعيد تنظيم” هيجل، بلغة الاحزاب وخسرت المثالية، ومعها الكنيسة، أكبر مرتكزاتهما.في الادب أيضاً بدأت الاساليب التقليدية ومضامينها، وخاصتيها في فيض التعابير والأوهام، تنحسر لتُقرأ كتابات تشير إلى أو تزخر باحتياجات الواقع المزدحم. الواقعية الآن أكثر فصاحة وأكثر صدقاً وتضع يدها على الشيء الذي تتحدث عنه، وتقول: هذا! حين وصلني كتاب الأستاذ رضا الظاهر “ماركس هل كان على حق؟..”، استعرضت ما مضى وقلت لنفسي: هذا السؤال، “ما يزال لم تكتمل الاجابة عنه...”.

وهنا أتوقف عند قول الاستاذ الظاهر: “إنّ العودة الى ماركس هي نتاج الأحداث المترابطة والمتداخلة والمتفاعلة...، أقول إن هذه الارباكات هي نتاج تعثر الرأسمالية في التطبيق،” وسنرى مثل هذا التعثر في تطبيق الفلسفة الأخرى المناهضة لها ايضاً! فالراسمالية، كما رأيناها، ونراها، تتعثر بأزماتها وذلك طبيعي ما دام ارتباطها بالسوق والعالم. 

وما دام هذان غير مستقرين، فهي غير مستقرة أيضا. 

وفي مناقشته الاغتراب الذي، كما يقول الظاهر، صار شائعاً في الأدب والفلسفة السياسية والتحليل الساسيولوجي والسايكولوجي..، كان ماركس يعده (الاغتراب)، مسألة رئيسة، ومن هنا حضوره الاجتماعي...”.

المشكلة، يا صديقي الظاهر، اقتصادية أساساً وانت تعرف هذا اكثر من سواك، لقد اتضح هذا حين صار المزارعون عمالاً صناعيين إذ تراجعت الزراعة وازدهرت الصناعة الحديثة. معنى هذا أنهم اغتربوا عن طبيعتهم وعن مهنتهم وعن بيئتهم. أيضاً كثير من مثقفي البرجوازية غيروا، من بعد، هوياتهم الثقافية ليلاحقوا الفرص الجديدة المتاحة. وسنرى العديد من  العلمانيين المتطرفين في ألمانيا انضموا إلى النازية. وعندنا كما تعلم، حصل مثل هذا ويحصل الكثير. ثمة مجال للعتب او للآسف، ولا مجال للإدانة: “الخبز أولاً”!. قلق الانتماء هذا، كما يقول الظاهر، حصل في المؤسسات الاجتماعية، في القانون والحكومة والدين والحياة الاقتصادية. ماركس لم يفته جذر المسألة، هو انطلق من ذلك. فأعطى أهمية أكبر للاغتراب كملاحقة للعيش وخلاص من الجور، ولا نغفل جور البيئة الطاردة. أنا أفهم الظاهرة على أنها قلق انتماء يصحب قلق تبلور الطبقة. وهو هذا سبب إشارتي للزراعيين أنهم أصبحوا عمالاً صناعيين في المدن.. ولعل ما في رواية “أوقات عصيبة” “Hard Times” لديكنز، يوضح أي مآسٍ لمجتمعات في بؤر التعاسة والاستغلال تلك.. ويصحب الاغتراب، بأنواعه، مسخ وسلخ الهويات الإنسانية وهو ما أوضحه الظاهر في أكثر من موضع في الكتاب: ونخطئ خطأ بالغاً إذا قصرنا ذلك على فئة أو طبقة.. الاغتراب اغتراب حيث صحب الناسَ القهرُ أو أُسئ اليهم.

“إنَّ أفكار الاشتراكيين والاقتصاديين الأوائل وأفكار كارل ماركس ما هي إلا حركات عقلية في عمق الاقتصاد للبحث عن الخلاص”، لأنقاذ البشرية مما يرهقها، مما تراكم عليها من قهر. والمشكلات المثارة والتي تبدو أخلاقية، هي واقعاً من إفرازات عمل مفاصل الرأسماليَّة. التي حيث تكون فالمنطقة قلقة وسهلة التشققات واحتمال المعانين منها وصبرهم عليها هو فقط لاستمرار الخبز المر.

لكن في هذه المنطقة الوعرة من زماننا، لا نملك أفضل منها. وإلّا فاي نظام معروف يمكن ان يكون الان بديلا؟ هل الرأسمالية غير مقنعة؟ نعم، ولكنها الوحيدة الفاعلة اليوم وتدير المشكلات والانظمة ولا نستطيع العيش من غير نظرية واضحة متفق عليها. العزاء هو أن البحوث ما تزال مستمرة ونضال البشرية، معلناً او خفياً، ما يزال مستمراً ليلتمع افضل الحلول. والفكر التقدمي يعمل لا من ثورة اكتوبر ولكن منذ بدء الوعي وادراك البشرية لمحنتها!

المسألة الثانية:

يبدو أنّ الأستاذ الظاهر عزم سلفاً على رصد الاعتراضات، وحاول ان يظل معقولاً” خطابُ كراهته وهو يفنّد وجهات النظر الاخرى. نحن لا ننكر عليه حقه، ولكنها مسألة بحث وبحث في افكار تعود للانسانية كلها. أتمنى أن نمكِّن انفسنا من محبة الثقافة كلها، ومن النظر باحترام واحد او متقارب، أو في الاقل بلا استياء، لافكار الباحثين الآخرين فهم مفكرون ولا أظنهم لا يتمنون الصواب.

أعطى الكاتب اهتماماً واضحاً لفصل: “المنظور الليبرالي للمجتمع المدني”. وهذا يعني المفكرين: توكفيل وهنا ارندت وهابر ماس.. لا بأس من تصويب ما نراه خطأ، على أن نتذكر وباحترام، ان هؤلاء مفكرون وشَغَلهم الموضوع وحاولوا تحقيق أقصى قدر من الحرية. والأوائل منهم فضلوا المجتمع المدني على الدولة وظلوا يحاولون تقليص سطوة السلطة العامة. والاستاذ الظاهر يعلم ان “مثلث برمودا” يقع بين الدولة والفرد ونحن ثقافياً وفكرياً لا نستطيع أن نتخلى عن الفرد. أما أنهم ينسحبون إلى مواقعهم من بعد، فهي هذه تراجيديا الكفاح البشري ومضمون، ربما ثلاثة أرباع الأدب، أن يضطروا للانسحاب، والتفاهم مع العدو، أو، كما يقول الظاهر يتضرعون للاستبداد. المثقف لا يستطيع أكثر من هذا لأنه ليس طبقة وكونه مناضلاً، فهذا لا يعني دائماً أن يموت. مع كل الاحترام لالتزاماتنا الفكرية والاجتماعية، العصر يفرض علينا التجاوب الانساني المَرِن مع المتغيرات وان يكون تفهمنا اليوم للمختلف أكثر. الاختلاف غير العداء والاختلاف أيضا غير الكراهة، الاختلاف توسّع في الثقافة.

الخط الليبرالي عموماً هو خط ثقافي في وجهه العام وفي طبيعته العملية. وبحكم طبيعة ذلك التكوين هم غير مجبرين على أن يكونوا عدوانيين كما ضد خونة، بل ان يكونوا متعاطفين، متفهمين، “مناضلين” لا يملكون أسلحة مادية او قدرات صراع مع سلطة، وهو فارق يشفع لفض المواجهة.

أولاء الليبراليون، وسواهم ضمن دائرة الردَّ، حاولوا إيجاد حلَّ او سبيل خلاص. “وكانوا يلتقون ويعملون في الأجواء المشتركة للرأسمالية”. 

من هنا أدعو لاحترام مسعاهم وان نتذكر، ونحن “نسقطهم” ان الراسمالية من أجل مصالحها تزيّف الاخلاق والسلع. ولن يتوقف فعلها عند حد. وقد شهدنا ماركسيين زائفين في مواقف رثة. الرداءة واحدة في الظرف السيء او الاستلاب. صعب، بل غير صحيح إدانتهم، أو إدانة فريق ما، بايقاف التقدم. التقدم محصلة تاريخية ولا أحد يمرّ من دون دفع ثمن، مثلما لكل أحد دور ونسبة من الايجاب. ما كل خلاف عداء يستوجب رفضاً. كانوا مفكرين وكانوا نخباً فريدة لمجتمعات متورطة في اشتباك يغلفه غموض كثير، ضمنه، بقايا الاقطاع والعيوب المدمّرة للرأسمالية الجديدة ذات القيم القلقة. ارستقراطية نظيفة واخلاقية، لم نتوطن ولم تترسخ بعد، وفكرها المخالف، على ما هي عليه، معرقل وغير مريح ولكنه أيضاً ليس معادياً. هي مسيرة ولا بدَّ من أن تمرّ بمناطق تستوجب حذراً في التعامل. “ثمة  الكثير من القوى خارج سيطرة الدولة”، تقول في ص152. وأقول ثمة الكثير من الافكار خارج الفهرسة التاريخيّة. التاريخ يعمل علناً ويعمل سراً ايضاً! ثمة ما هو خارج التسلسلات المعروفة وما دامت هناك ثلاثة مصادر، وأظنها أكثر، في المجتمع المدني هي: الاقتصاد  والمجتمع والثقافة - بحسب الظاهر - فعلينا توقع اختلافات رؤيوية وصراعات اجتماعية غير محسوبة من تداخل إشكالات هذه الثلاثة، وهي مسألة تعرفها أنت بحكم اهتمامك اكثر مما اعرفها. إنَّ الليبراليين، كما الاشتراكيين ظلوا يواجهون حقيقة أن الراسمالية، كأي نظام، لا تستطيع أن تتجاوز الصفات المتأصلة في طبيعتها. 

والمواجهات الفكرية تتعامل مع تلك الطبيعة بمرونة، لأنها لا تستطيع غير ذلك. 

وهنا يصبح صعباً حشر الساعين للخلاص، ليبراليين او سواهم  مع الاعداء، فقط لأنهم يخالفوننا. لذلك سأعيد سؤالك: هل كان ماركس على حق، وأقول: هل كانت الثقافة في جملة مسعاها على حق؟

الصعب، وأقول: هل كانت الثقافة في مجمل مسعاها على حق؟

 ما يستوجب التقدير أن الكاتب تتبع ثقافة الاشتباك والاعتراض أو الرفض وأضاءها بصبر، وبكل أدب الباحث المحترم. ظل يرتجي من الثقافة الخلاص وهو يعيد حساباتها من أجل رؤية واضحة لما قال ماركس، ماركس الذي كان ينظر للبشرية وما هي فيه من مشكلات

تستوجب حلاً..