علي العقباني
يفتتح الخطيب فيلمه "الحكيم" بمشهد افتتاحي للحكيم "جابر عبد الودود"، وهو اسم يحيلنا فوراً إلى فيلم "الحدود" لدريد لحام والذي كان اسمه فيه "عبد الودود"، ومن الممكن أن تكون إشارة أو تكريماً لهذا الفنان، الذي قدم ما يزيد عن الخمسين فيلماً وعدد كبير من المسلسلات التلفزيونية، وهو ما فعله الخطيب سابقا في فيلمه السابق" دمشق ـ حلب" تكريما له، حتى في أغنيتي الختام هنا وهناك، يفتتح بمشهد طويل للحكيم يمشي على تلك الأنقاض وبقايا الحرائق والدمار، باحثاً عن نبتة خضراء يأخذها معه إلى بيته ليزرعها هناك، ويسميها بأسماء من رحلوا أو من يُحب، ثم يتلوه مشهد الطفل الغارق في إغفاءة طويلة نتيجة ارتفاع حرارته، حيث يقرأ عليه الحكيم "آيات من الذكر الحكيم"، فيفتح الصغير عينيه مبتسماً، مشهد استهلالي كان يمكن للخطيب جعله عتبة أكثر توهجاً وهدواءً ودفئاً، لا سيما أنه تخلى في "الحكيم" عن بذخه البصري المشبع بالإضاءة واللون والمشهدية والجمال والكوادر الواسعة غالباً، ولقطاته العامة سوى في القليل، وإن خلقت تساؤلاً حول ذهاب الحكيم كل تلك المسافات بسيارته، ما يوحي أنه ليس فقط حكيم القرية، بل القرى المجاورة أيضاً، لصالح كوادر وزوايا تصوير أكثر ضيقاً وتفصيلاً وقرباً من الوجوه، خصوصا لصالح الحكيم، فالقرية نراها في مشهدين أو ثلاثة، لكن كوادره كما عادته دوماً نظيفة متقنة جميلة، حتى ثياب ممثليه تبدو نظيفة دوماً.
ليس في "الحكيم" ما يمكن تسميته في الأدب والنقد "كسر أفق المتوقع"، فكل ما يجري يمكن توقعه، منذ البداية ووصول ياسمين حتى خطفها وعودتها، مشاهد قليلة فقط اعتمد فيهما الايهام بشكل بوليسي (سرقة أحد بيوت القرية والحكيم بسيارته عائداً... اذ التوقع هنا سيكون أن المنزل هو للحكيم)، لكننا مثلاً عندما نرى نظرات "محمد قنوع" لياسمين "ليا مباردي" حفيدة الحكيم جابر عند قدومها للقرية في أداء بسيط وعفوي يغلب عليه المبالغة في الطيبة، ستحيلنا تلك النظرة والجملة إلى ما سيحدث، وكذلك عملية خطفها، أو سرقة البيت، أو موقف أهل القرية، أو أفعال الخير المتكررة للحكيم، سواء في العيادة أو منازل المرضى، والتي تمهد لفعل شرير يقوم به الأشرار، كما سنجد ذلك في حالة "ندى" (ربا الحلبي) التي تستلقي في غيبوبة منذ مقتل ابنتها في تفجير أمام باب المدرسة وهي تحملها، فعندما يزورها الحكيم ويطلب من حفيدته أن ترافقه، نفاجأ بياسمين تنظر إلى البيت واللوحات، وتقرأ الجداريات التي تسميها فورا "بالانطباعية العفوية"، وهي التي تدرس الفنون الجميلة، تلك اللوحات يرسمها أخو زوج "ندى" الأبكم، والذي تنشأ بينه وبينها علاقة رومانسية هادئة، تلمح ياسمين إحدى اللوحات والطفلة "نغم"، تحمل دفاً تطرق عليه، فتأتي في المرة القادمة وتنقر على الدف نقرات خفيفة مما يجعل "ندى" تفتح عينيها، كلنا نعلم أنها ستستيقظ وكان أمام الخطيب فعلاً أن يجعل من ذاك المشهد عتبة مهمة لجهة التمهل والانتظار، لجعل المشهد يأخذ حقه وأبعاده المتنوعة، لكن الخطيب يؤثر أن يجعلها تستيقظ من أول نقرة على الدف، ناهيك عن مشاهد الحلم والاستحضار للحكيم، الذي يستحضر ابنته "شمس" (روبين عيسى) في مشاهد متعددة، وكذلك استحضار "ندى" لطفلتها، في تشابه وربما تطابق.
ليس فاعل الخير دوماً يلقى خيره، وإن كان علينا فعله دائماً، وهو ما يدفعني للانتقال إلى الشخصية الأكثر تناقضاً وفعلاً في العمل وهي شخصية "عزيز" (رامي أحمر)، في أداء لافت في معظم المشاهد، ابن أم عزيز "صباح جزائري" المريضة بالسرطان، وأخوه، يعملان في ميكانيك السيارات، وكان في أيام الحرب يتاجر بالسلاح وغيره، مع "محمد قنوع" ورجالات تلك المرحلة ومن خلفهم الآن، وهو هنا متناقض فهو طيب ويتضح ذلك في مشهدين، الأول عندما يقتحم منزل الحكيم لسرقته، وتكون ياسمين فيه لكنه لا يؤذيها، فقط يكتفي بربطها، والمشهد الثاني مع والدته، التي يكون معها في خلاف شديد ثم يرمي نفسه في حضنها، لكنه في النهاية يخطف "ياسمين" حفيدة الحكيم الخير الطيب المحب، طبيب القرية ومساعد الأم وغيرها، بإيعاز من رجل المرحلة وعلاقاته المشبوهة في السرقات، والآن في خطف الصبايا العذراوات لصالح سيدة "ريهام عبد العزيز" تملك بيتاً للدعارة، وهنا بعد حادثة الخطف واللقطات المتوازية بين الحكيم وهو يطمئن على أم عزيز وعزيز، الذي يخطف ياسمين من الغابة وهي ترسم صحبة الشاب الأبكم، ومن ثم ذهاب الحكيم لمحل عزيز وياسمين في مشهد الطابق الثاني هناك، أهالي القرية "قرية سورية لا نعرف المكان وموقعه لا من خلال الجغرافيا ولا اللهجة، حتى لو علمنا مكان التصوير وجمالياته في قرى ريف حمص"، هنا يهبون للبحث عن ياسمين في الغابة، ويجد الأبكم الجوال وعليه لقطة الخطف والسيارة، فيحاصر أهل القرية الطرقات ويعودون بياسمين من السارق قبل أن يخرج بها من القرية في مشهد غاية البساطة، وتعود ياسمين إلى جدها.