ثقافة الريلز

آراء 2023/06/20
...

أحمد الشطري
ما نشهده من تسارع هائل في التطور التكنولوجي هو نتاج جهد وإبداع لأناس ساهموا في تقديم خدمة للإنسانية، جعلت بعض جوانب الحياة أكثر يسرا ومتعة، ولكنها في الوقت ذاته أضافت سيلا من الأعباء والمشكلات التي خلفت الكثير من الخراب داخل النفوس البشرية.

ولعل هذا التناقض الذي يشكل صورة لطرفي معادلة هي في كثير من جوانبها تكاد أن تكون صورة طبيعية لكل حالة مستجدة، فلكل عمل وجهان أحدهما إيجابي والآخر سلبي، ومن الصعب إن لم يكن من المحال أن تستقر الصورة على وجه واحد، طالما أن هناك عجلة دائرة تتحكم بوجوه تلك الصورة.بيد أن الأثر السلبي في هذه المعادلة يكاد أن يكون أكثر عمقا وأخطر أثرا بل وأكثر شراسة؛ لأنه يتغلغل بشكل خفي ويقدم نفسه بأسلوب مغرٍ ويتسم بالبساطة والجاذبية.
ولأن غريزة الإنسان في البحث عن الرفاهية والدعة والامتاع لا يمكن أن تستكين أو تقتنع برؤية وجه واحد؛ فإن متعة الاستكشاف تبقى فاعلا رئيسيا ومثيرا في تحريك تلك الغريزة.
ومما لاشك فيه أن مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت كثيرا في خلق بيئة اجتماعية، وإن كانت افتراضية، لكنها تسهم في كثير من الأحيان في توسيع دائرة التلاقح الفكري والثقافي، الذي يخلق أحيانا نوعا من الوعي الإيجابي، من خلال كسر أطواق التابوات السياسية أو الدينية أو الطائفية أو القومية، التي تحد أو تعيق عجلة المعرفة من الوصول إلى مريديها.
وإذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي تلك قد فتحت بوابات للحوار وتبادل المعرفة، فإنها فتحت بوابات أخرى هي أكثر اغراء وأسرع تأثيرا وجذبا، وهي ما يعرف بـ(الريلز)، وهي عبارة عن مقاطع فيديو قصيرة، بات لها نجومها ممن يُدعَون بـ(صناع أو مبدعي المحتوى Content creators) وتتفاوت قيمة ما تقدمه هذه المقاطع بين المحتوى الهابط والمحتوى الفني الممتع، أو تلك التي تقدم المعلومة السريعة، وإذا كان تصنيف المحتوى الهابط من حيث الخطورة يوضع في أعلى درجات السلم، فإن بعض مقاطع المعلومات السريعة لا تقل خطورة عنه، فهي تشبه إلى حد ما عملية زراعة البذرة في الأرض الخصبة، والتي تستمد غذاءها من مخيلة أو كوامن نفس المتلقي؛ لتصبح شجرة راسخة الجذور وتصبح القناعة بتلك المعلومة السريعة وكأنها اكتسبت كل مبرراتها المنطقية لتكون حقيقة ثابتة، ووفقا لتلك (الحقيقة المشبوهة) تتولد قناعات ببطلان كل الحقائق المضادة.
وفي النهج ذاته (نهج المعلومة السريعة) يتم اقتطاع مقاطع فديوية لأحاديث بعض الشخصيات المعروفة ( دينية أو سياسية أو فنية.. الخ) لتقدم على أنها آراء أو مقولات أو متبنيات ذلك الشخص وهي في حقيقتها قد تكون تمهيداً لمقولته أو عرضا لقول آخرين بغية نقضه، ويتم حذف رأيه الذي أراد التصريح به، وهو فعل قصدي يهدف إلى تشويه شخصية ذلك الإنسان أو عقيدته أو متبناه السياسي والفكري أو صناعة محتوى ساخر، من خلال عملية منتجة غير أمينة وذات نهج لا اخلاقي.
لقد باتت الثقافة التي تنشرها مقاطع الريلز خطرا داهما يغزو ويهيمن على الكثير من عقول الشباب والفتيان بل حتى كبار السن من غير المحصنين وعيا وثقافة، فهي تجسيد تام لمقولة “دس السم بالعسل”؛ حتى أصبحت هذه الثقافة هي البديل المهيمن والمالئ لوقت الفراغ، بل الشاغل الأول لمعظم وقت الكثير من الناس بجاذبيته السحرية التي يجد هؤلاء ( الريلزيون) صعوبة في الإفلات من أسلاكها الشائكة، فتحولوا إلى أشبه ما يكون بفرائس مهيأة على الدوام لذئب الجائع.
ورغم ذلك فإن حديثنا عن سلبيات هذا الذئب المفترس، لا يعني أننا نلغي المنافع الكثيرة لهذه النافذة الإعلامية المهمة ثقافيا وفنيا وامتاعيا وجماليا، فهي بالتأكيد تحمل الكثير من الإيجابيات ومع صعوبة تحديد نوعيات المحتوى (الريلزي) وغربلتها من قبل المؤسسة الرسمية، فإن المجتمع بمختلف مؤسساته يصبح هو المسؤول الأول عن تحييد ما هو سلبي، سواء عن طريق نشر الوعي الثقافي، باعتباره لقاحا مضادا للفايروسات (الريلزية) أم عن طريق بيان مخاطر تلك الفايروسات والحذر من تغلغلها في جسم المجتمع، وخاصة الأجيال الناشئة.