علي وجيه
أهم ما يمكن ملاحظته في شخصيّة د. قيس عيسى (البصرة 1975) هو هدوؤه وتنظيمه، ويكادُ ينسحبُ ذلك على كلامه، وملبسه، وتعامله، وهو بطريقةٍ ما تنظيمٌ مُربِكٌ للمقابل، الذي تعوّد على خيط عشوائيّ في شخصيات الفنانين التشكيليين، أو حتى أصحاب الأثر العام من كل الاختصاصات.
والغريب بالأمر، وأنا أدخلُ مرسمه في البصرة، كان المرسم بحدّ ذاته، فهو مرسمٌ منظَّمٌ، دقيقٌ، نظيف، يشبه غرفة عمليات في مستشفى، على الجدران البيض ليس هناك لطخة أكريليك واحدة، وعلى الطاولة الخشبية ليست هناك قطرة حبر، أو أثر لفرشاة مُستخدمة، حتى شككتُ بأنّ هذه الغرفة مرسم، أو أنّهُ ينفّذُ أعماله في مكانٍ آخر.
عصّارات اللون تصطفّ بشكلٍ أفقيّ واقف مثل الجنود.
في ملاحظة نقديّة، عن مرسم فرانسيس بيكون الفوضويّ لدرجة الرعب، مع تداخل كلّ شيء، أنّ "هذه الفوضى التي في المرسم تنعكسُ تماماً بشكلٍ مقلوب على نظافة وتنظيم عمله، فعمله دقيق ومحسوب، عكس المرسم"، ويبدو أنّ قيس عيسى، مارسَ العفوية والتجريب في أعماله حُرّاً بشكلٍ كامل، عاكساً معادلة تنظيم مرسمه.
وعملُ قيس عيسى يشبه، كلاهما هامسٌ، يشير، ولا يصرخ، رغم تعاطيه مع موضوعات صارخة بالغالب، مثل انفجار مجمّع الليث، غرق العبّارة في الموصل، سبايكر، أو الهجرة، وفي عملٍ لم يُنجز بشكل كامل كانت الإحالة للدم إحالة هامسة، بإشارة، بمربعٍ أحمر خفيف، بعيداً عن الشعاراتيّة الصارخة التي تحفل بها أعمال كثيرين من التشكيليين العراقيين.
ولد قيس عيسى في بيت تشكيليّ من الموجة الثانية للجيل السبعينيّ العراقي، وهو الراحل عيسى عبد الله، قربُهُ من المشغل المباشر لوالده، وزملائه من الفنانين والأدباء البصريين، جعله عارفاً بزوايا وتفاصيل المشهد التشكيلي العراقيّ، لكن الأمر لم يجعل منه امتداداً لهذا المشهد البَصَري، حتى حين درَسَهُ أكاديمياً، لكن نزعته الواضحة لإيجاد خطابٍ وعلامة ورمز وتكوينات لونيّة لا يُمكنُ إحالتها ببساطة إلى فنّ مجاور، أو فنان آخر، يشكّلُ بطريقة ما هاجساً يومياً لقيس، وعمله.
شاهدتُ بعض الأعمال الأكاديمية له، وهي أعمال احترافية، فضلاً عن تدريسه لهذه المواد لطلبة أكاديمية الفنون الجميلة في البصرة، لكنه يفكّر بطريقة ثانية، على الجانب الأدائي، وعلى جانب الموادّ المُستخدمة بإنتاج الأثر الفنّي.
في بعض أعماله، يستغني قيس عيسى عن الخطّ الناعم الذي يمكن تنفيذه بقلم تحبير أو فرشاة صغيرة، ليستعيض عنها بخيوط البريسم، أو يذهبُ لشراء 300 حامل ملابس، المُسمّاة بالدارجة (التعلاكَة)، لينفّذ عملاً دائرياً عن الهجرة، أو تكوين من بيض الطيور، أو حبال على كانفاس مثقوب، لتصنع مشهداً متوتّراً، لا على الجانب التقني فحسب، بل على الجانب البَصري، فيمكن أن يستخدمَ قيس عيسى، نظراً لخبرته بالتعامل مع المواد، وهو مصمّم طباعيّ أيضاً، أيّة مادة لتكون جزءاً من العمل الفنّي.
لا يُعنى قيس عيسى بالاقتناء بشكلٍ مباشر، رغم أنه فنان مطلوب في السوق العراقيّة والعربيّة الى حد جيد، لكنه يحتفظُ بمراحل مختلفة من عمله في المرسم المنظَّم، وحتى طريقة عرضه لأعماله أثناء الزيارة هذه، كانت عملية تلقٍّ هادئة، كان مثل بائع العطور الذي لا يربك حاسة الشم بعطرٍ بعد آخر، انتبهتُ لفاصل زمنيّ ربما عشر دقائق بين سحبِهِ لعملٍ وآخر، كي يتم تلقّي كل قطعة على حِدة، وهذه التفصيلة لا تصدرُ بسهولة إلّا من دماغٍ مشغولٍ فعلاً بإنتاج العمل الفني، وتأويله، وتلقّيه، على مدار اليوم.
العمل الذي ينتجه قيس عيسى عملٌ منظّم بطريقة مُفرِطة، ليس ثمّة شيءٌ عشوائيّ في الإطار العام، ويكاد أن يكون العمل دقيقاً بالملّيمتر، لكن داخل هذه الدقة ثمّة عفوية، ولعبٌ في التكوينات التجريدية وطبقاتها المتراكمة على بعضها، السوداء بالغالب، تذكّر بطريقةٍ ما بقيس الطفل، الذي كان يرسمُ إلى جانب والده في سنوات طفولته.
دقّة قيس والسعي لإنتاج النادر، جعل معارضه الشخصيّة قليلة، وإن كانت مشاركاته الجماعية في معارض جمعية الفنانين التشكيليين، بالفرع الرئيسي في بغداد، أو في البصرة، دوماً ما كانت مميزة وذات أثرٍ واختلاف، أخبرني عن تفكيره بمعرضٍ شخصيّ لأعماله، وهو من الفنّانين الذين يُنتظر منهم أشياء كثيرة، في معرضٍ شخصيّ أو خارجه.
خارج سياق هذه المادة، وإن كان الوقتُ مبكراً نسبياً، لكنّ بيت عيسى عبد الله، الذي أنجبَ قيس عيسى، يشكّل حالياً فناناً مهماً اسمه "ياسر قيس"، وهو حالياً في المرحلة الابتدائية، لكنني سأكون سعيداً بتذكير الآخرين بهذا الفنان، بعد عشرين عاماً تقريباً، ونحن نحتفي به فناناً محترفاً، مثل أبيه وجدّه.