ثلاثة أيام من النقد المشغل السردي في البصرة.. قراءة القصة عراقياً

ثقافة 2023/06/21
...

البصرة: صفاء ذياب


 
اختتمت يوم السبت الماضي في مدينة البصرة فعّاليات المشغل السردي السنوي الثالث الذي يقيمه اتحاد الأدباء والكتّاب في البصرة، بإشراف رئيس الاتحاد الشاعر فرات صالح ولجنة تحضيرية تشكلّت من  القاص محمد خضير، والشاعرة منتهى عمران والقاص باسم فرات والناقد الدكتور سلمان كاصد والقاص صلاح عيّال والقاصة ميرفت الخزاعي والقاصة خولة الناهي والشاعرة جنان المظفر.

الورشة التي امتدّت لثلاثة أيام شارك فيها عدد كبير من القصاصين من داخل البصرة ومن المدن العراقية الأخرى، وهو ما ميّز هذه الدورة التي انفتحت على المدن العراقية، فضلاً عن مشاركة نقّاد من مدن أخرى أيضاً.


وقد قسّمت اللجنة التحضيرية الورشة إلى ثمانية عروض نقدية، فقد أشرف على نقد قصص العرض الأول التي تألّفت من 6 نصوص الناقد صادق الصكر، وكان العرض الثاني الذي تألّف من 5 نصوص الدكتور محمد قاسم نعمة، والعرض الثالث من 5 نصوص بإشراف الدكتورة إشراق سامي، والعرض الرابع من 6 نصوص بإشراف الناقد عبد علي حسن، والخامس الذي تألّف من 5 نصوص كان بإشراف الناقد جميل الشبيبي، والسادس من 5 نصوص بإشراف الدكتور عادل عبد الجبار، والعرض النقدي السابع من 6 نصوص بإشراف الناقد علي سعدون، وختاماً كان العرض الثامن الذي تألف من 6 نصوص بإشراف الدكتور عقيل عبد الحسين. وبهذا تمَّ اختيار 44 نصاً سردياً من بين مئات النصوص التي قدّمت للجنة التحضيرية، وعملوا على فرز الأفضل منها لتقديمه في المشغل السردي.

 إضاءة النصوص

وفي حديث خاص، بيّن الشاعر فرات صالح، رئيس اتحاد الأدباء في البصرة، قال: إنَّ المشغل السردي واحد من اشتغالات الاتحاد من أجل تحريك المشهد الثقافي في البصرة والعراق عموماً على أسس من المهنيّة الثقافية الرصينة في وقت كادت تسود فيه المجانية في التعامل مع النصوص الإبداعية في ظل سيادة المجاملات والانطباعات والأحكام السريعة لمواقع التواصل الاجتماعي.

مضيفاً: يأتي انعقاد المشغل هذا العام بعد نجاح دورتين سابقتين خصصتا على التوالي للأدب القصصي النسوي في البصرة والقصة القصيرة جدّاً. وفي هذه الدورة التي جاءت تحت عنوان “النقد القصصي وتطبيقاته” استقبلت اللجنة التحضيرية العديد من القصص لنماذج مختلفة من الكتّاب منهم المبتدئون ومنهم المتمرسون، وبعد تصفيتها حوّلتها إلى مجموعة من الأساتذة المتخصّصين بالنقد القصصي لدراستها وبيان رأيهم النقدي فيها.

وبرأي فرات صالح الخاص، تأتي أهمية هذه الدورة من كونها تعيد الأمور إلى نصابها من حيث أنها تؤكّد على أهمية النقد في إضاءة النصوص وبيان مواقع الخلل إن وجدت، وبالتالي اعتياد المبدع على الركون إلى ملاحظات النقد بما يخدم تطوّر النصوص وتطوير قدرات الكاتب نفسه.

 حسّاسية المغايرة

ويشير الناقد عبد علي حسن؛ من بابل، إلى أن وراء تأسيس المشغل السردي في البصرة أهداف قريبة وبعيدة، فعلى صعيد الأهداف القريبة كانت المساهمة مع المؤسسات والنوادي السردية المنتشرة في عموم محافظات الوطن في استعادة المكانة للقصة القصيرة العراقية التي تعاني من هيمنة الخطاب الروائي وتصدّر الرواية للمشهد السردي العراقي، أمَّا الأهداف البعيدة التي يجدها من الأهمية بمكان انفتاح فعاليات المشغل في دورته الثالثة هذه على كتّاب القصة في المحافظات كلّها لرصد ما يمكن رصده من التجارب الجديدة التي تشكّل حسّاسية المغايرة لما هو مألوف في القص العراقي، و”بحدود معاينتي النقدية للنصوص القصصية الستة التي أوكلتها لي اللجنة التحضيرية للمشغل، فقد وجدت تفاوتاً بيّناً في مستوى هذه النصوص على المستويين الفكري والجمالي، وعلى الرغم من التزام الجميع بالهيئة السردية التي كوّنتها أركان القصة كالحدث والشخصية والزمان والمكان، فقد وجدت مراوحة النصوص كلّها في المنطقة المألوفة والمستهلكة في القص العراقي، فهنالك الضعف في الأفكار المقدّمة وبساطة تكوين الحكاية ومجافاة لتقنيات السرد المعاصرة واتجاهاته المحدثة كخرق التتابعات الكرونولوجية والعجائبية والغرائبية، الأمر الذي أشّر ضعف المخيّلة في ابتكار الحكاية التي تمتلك القدرة على تجسيد الفكرة، ولعلّ سبب ذلك هو عدم استحضار المستوى المتقدم الذي وصلته القصة القصيرة العراقية منذ ستينيات القرن الماضي حتّى الآن، لذلك فإنَّ هذه النصوص لم تتمكّن من الدخول إلى منطقة الأهداف الكبيرة التي يسعى المشغل إلى تحقيقها، أما على مستوى الموضوعات التي عالجتها القصص فإنَّها كانت موضوعات مستهلكة وبعيدة عن مجريات الواقع العراقي الذي يحفل بموضوعات من الممكن إعادة إنتاجها وفق رؤى سردية متقدّمة، فبقيت هذه النصوص رهن التجارب الوجدانية البسيطة والحياتية القريبة من الذاكرة فكانت تشكّل ظواهر زائلة لم تترك أثراً في المخيال الفردي والجمعي، ومن أجل ما ذكرته آنفاً، فإنَّ هذه النصوص لم تمتلك حسّاسية المغايرة لما هو شائع ومألوف في السرد القصصي العراقي.

 القصة نتاج للغة

وبحسب الناقد علي سعدون، من مدينة العمارة، فقد تضمّنت ورقته النقدية للمشغل السردي الثالث مقدّمة نظرية عن موضوع “اللغة والخصائص الفنية في قصص مختارة” فضلاً عن تطبيق نقدي على عدد من القصص القصيرة المختارة.

ويضيف سعدون: إنَّ القصة القصيرة فنٌ قوامه اللغة الماهرة. اللغة التي تريد لنفسها موضعاً مختلفاً في التدوين. فتتميز بالتكثيف والضغط وسرعة الإنجاز بأقل تكلفة من الكلام. وهذا التخصيص (الشكلاني) هو جوهر ما يميّزها عن الرواية وعن المسرحية وعن الأقصوصة أو القصة القصيرة جدّاً. وإزاء– لغة من هذا النوع– يجدر بنا أن نقيم جسراً من التناغم بين تلك المهارة و الخصائص النوعية بوصفها عماد القص وهيكله العام. فاللغة- وهي هنا المحور الأساس في مقاربة القصص- تأخذ أهميتها من حيث طرائق إنتاجها الجديد على وفق الحسّاسية التي أنتجتها مدارسُ الحداثةِ وما بعد الحداثة. ما يعني أنَّنا نفترض لهذه القراءة أن تتعامل مع النصوص برؤية حداثية لاستقصاء مدى عمقِها وعلاقتِها بالقارئ الذي يريد من القصة أن تتمثّله وتأخذ بيده إلى حيّز من الفن النادر وهو يكشف عن الحياة والمهمل منها بطريقة سردية لا تحتمل الترهّل والزوائد، وبالتالي لا تحتمل فائض اللغة وفائض الفكرة وفائض الموضوعة.

ويتحدّث سعدون عن النصوص التي تمّت إحالتها له، وهي: قصة “دوامة إفلاس” لعامر حميو، التي يرى سعدون فيها أنَّها لغة وصفية ولا تعتمد أيَّ نوع من التداعي. يسيطر فيها السارد العليم على الحدث، فيقوم بوظيفة الشاهد على وقائعها. هذه اللغة لا تغور عميقاً في النفس البشرية. وما يبرّر لذلك فكرتُها التي تذهب باتجاه توصيف النتائج المرعبة التي يفقد المرء ثروتَه وحياته بسبب نزوعه إلى اقتفاء الشهوة إلى آخر رمق فيها. هذه اللغة الواصفة اعتمدت التكرار على صغر مساحتها لترتيب إيقاع الحياة في القصة، تكرار الثيمات وتكرار حركة الشخصية الرئيسة التي تتيح للقارئ أن يشارك في رسم الحدث.

أما عن قصة “بسطال” لكاظم الحلاّق، فيرى سعدون أنَّ هذه القصّة تعمد إلى أنسنة الأشياء كما قلنا، وتعتمد المفارقة في طريقة الأداء. والمفارقة عند البنيويين سمة أسلوبية، وبالتالي فإنَّ فكرة البناء تبدأ بالفنتازيا، لكنَّها تشتغل بطريقة واقعية صرف. وهذا هو التفارق الأول بنائياً.. المهارة في الأنسنة لا يمكن أن يتحصّل عليها الكاتب بسهولة بسببٍ من اختلاف السمات والملامح، فضلاً عن حراكها الإنساني المختلف والمتقاطع بطبيعة الحال.

في حين يبين سعدون أن قصّة علي الصالح “الطاولة 26”، أنّها جاءت بلغة تحذف الكثير ممَّا يستوجب حضوره في القص، يعمل علي الصالح على أن يرسم الفوتوغراف المائل إلى الرومانسية، وهي رومانسية مبعثها الوله والتفاني في المحبة مثل عديد المتصوفة الذين يغرقون في لحظات العشق من دون إرادة منهم. وبالتالي هذه اللغة في قصة “الطاولة 26” تريد لنفسها أن تستكين على فوران القبض على جمرة الوصل. وهذه هي الجملة القاطعة في توصيف هذه القصة ولغتها.  فنراها - أي اللغة- وهي تصطف في متواليات مجازية وتجتهد كثيراً في انزياح الجملة وشعريتها، بل شعرية الحدث برمته وقدرة العبارات فيه على الإزاحة.

وفي قصّة صلاح زنكنه “سيارة سوداء.. قبّعة بيضاء” سيقف القارئ حيال اللغة التي تعتمد الحبكة كخصيصة فنّية وكعمود رئيس لأهمية الحدث، لغة هذه القصة بوليسية بامتياز، لغة تجعل القارئ يترقّب الحدث ويلاحق فعل السرد بقوة. في حين أنَّ قصّة علي سمير غانم تربك القارئ كثيراً لتعدّد مستوياتها اللغوية. فهي تقريرية في الغالب بسارد عليم، يدري بكلِّ شيء يحيطه ولا يجهل شيئاً. وفي الواقع أنَّنا سنصطدم هنا بواحدة من موجبات بناء الشخصية، العليم هنا ينفرد باللغة وبالتوصيفات وتتعطّل وظيفة القاص إلَّا فيما يندر بمتعلّقات تختص بالروح.

أمَّا اللغة في قصة “بُنّــيٌّ لَونُ الخَريفِ” لخلود بناي البصري، فهي لغة التداعي في الإفصاح عن مكامن الجروح العاطفية التي لا تندمل بسهولة، إنَّما تظلُّ عالقة حيّة في الروح والعقل. لغةٌ تشبه في سحنتها كتابة اليوميات والسيرة الذاتية.. هذه القصة تذهب إلى حالة من حالات التفارق والتناشز فتفيض المخيلة بأوهام الارتباط غير المادي بسبب من عاطفة قوية لا تزول ولا تضعف.

وباختتام المشغل السردي الثالث، يكون اتحاد الأدباء بالبصرة قد خطى في هذه الدورة نحو الانفتاح على المدن الأخرى، وإدخال تجارب مغايرة ربّما سيحثُّ الخطى مستقبلاً لتكون ورشة موسعة أكثر، بدعوة نقّاد آخرين وعدد أكبر من كتاب القصة القصيرة عراقياً.