الجسد باعتباره منصة تواصل

ثقافة 2023/06/21
...

أحمد عبد الحسين
أمران نَتقدّم بهما إلى العالم من دون أن نفكّ التباس علاقتنا بهما: الاسم والجسم. 

نحن لسنا أسماءنا. وذلك لحقيقة أن الاسم دائماً وأبداً هو غير المسمّى، وكأنّما هو عضو زائد عنّا، فحين أشير إلى ذاتي وأقول “أنا” لن يخطر في خاطري اسمي ولن أستحضره. أقول “أنا” وفي بالي شيء آخر أبعد من الاسم ويتجاوزه بحيث يغدو الاسم عرضاً عليه، شيئاً نافلاً، محمولاً غير ذي أهمية.

الجسد هو الآخر يغيب عني حين أنصّ على ذاتي، فبقولي “أنا” لا يكون لجسدي حصة في هذه الكلمة، إنها حصة الذات الأبعد من الاسم والجسم، برغم إنهما وحدهما ما أتقدّم به إلى العالم وأتعرّف إليه.

كلّ ما في الجسد له نحو علاقة مع آخر بحيث يبدو أنه محلّ التقاء ذاتي بالآخر ومنصة التواصل معه. على صعيد اللغة فإن كل الأفعال المشتقة من الجسد وأعضائه تدخلنا مباشرة في علاقة مع ما حولنا، خذْ مثلاً الأفعال التالية: يرأس أو يترأس “المشتقّ من الرأس”، يجابه “من الجبهة” يواجه “من الوجه”، يأذن “من الأذن” يساعد “من الساعد”، يعاين “من العين”، يعضد “من العضد”، يتكاتف “من الكتف”، يؤيد “من اليد”، يأنف “من الأنف”، يظاهر “من الظهر”. وسواها.

دافيد لوبرتون كتب مرة “إن الجسد ليس أمراً حقيقياً، هو بناء رمزيّ ولهذا فهو مختلفٌ فيه أشدّ الاختلاف”. ففي الوقت الذي يتخذ في الثقافة الغربية “المؤسسة على الفردانية” وظيفة الحد الفاصل بين ذات وأخرى نظير علامات حدودية صارمة، يغدو لدى شعوب الشرق منفتحاً على الآخر، نافذة للتواصل والتداول، أما لدى الشعوب البدائية فهو ممتزج بالطبيعة ولا يكاد يفترق عنها. يكتب “الجسد يستعير خصائصه من مملكة النبات، يخلق وجوده من الأشجار والثمار ويخضع لنبض العالم النباتي. وهذه الصلة ليست مجازية بل هي جوهرية تماماً”.

موريس لينهارت كان يحدّث شيخاً مسناً من قبائل “الكاناك” ليتعرف إلى ثقافتهم، وكانت صدمته كبيرة حين قال له ذلك الشيخ “أنتم جلبتم لنا الجسد”!

كان الجسد لدى هذه القبائل أمراً بديهياً لا يمكن عزله والنظر إليه منفرداً بمعزل عن الطبيعة. علاقة الجسد بالطبيعة شبيهة بتعبير “جورج باتاي”: الحيوان في العالم كالماء في الماء. ولذا فإن الأجساد كانت علامات تواصل مع العالم مخفية إلى الحدّ الذي لا يتلمس الإنسان ضرورة تسميته أو الإشارة إليه.

الجسد بوصفه حجاباً وتمييزاً وحداً فاصلاً هو “اختراع ثقافي” حديث نسبياً، بينما الجوهر المضمر في تعاطينا مع الجسد، لغة وتداولاً، يفترض الآخر ويدخله في صميم تكوينه.

حين يقول أحدنا “أنا” فإنه لا يقصد جسده، وهذا هو السبب: أن هذا الجسد هو حصة الآخر، حصة العالم بمقدار ما هو حصتنا نحن.