أحمد الشطري
ونعني بالرواسب التاريخية هي تلك الآراء المتوارثة عن جودة أو رداءة منتَج أو مُنتِج إبداعي، ونعني بالوسائل الإشهارية ما يضفيه الجانب الإعلامي أو الدعائي من قيمة إيجابية أو سلبية على طرفي العمل الإبداعي، كما نعني بالرؤية النخبوية تلك الرؤية التي تفرضها مجموعة المختصين نقادا كانوا أم منتجين ذوي أسماء لامعة وما تتركه من أثر إغرائي في المتلقين.
وكلا نوعي التلقي يرتبطان بشكل أو بآخر بالجانب السيكولوجي، ولعل هذا ما دعا الفلاسفة أو علماء النفس بشكل أخص إلى دراسة العملية الإبداعية، ومحاولة الوصول إلى أسرارها من خلال عمليات التحليل النفسي، ومن ثَمَّ ساهم ذلك في ظهور تيارات ومدارس أدبية وفنية ارتكزت في مفاهيمها على الجانبين الفلسفي والنفسي، وما أسماه أرسطو بمفهوم التطهير في حديثه عن أثر (المأساة) في الجمهور، هو بلا شك رؤية متحققة من رصد الأثر السيكولوجي للتلقي.
وبتأثيرات علم النفس ظهر تيار الوعي الذي أوجد مصطلحه وليام جيمس، ووفقا لروبرت همفري فإن “الوعي يدل على منطقة الانتباه الذهني التي تبتدئ من منطقة ما قبل الوعي، وتمر بمستويات الذهن، وتصعد حتى تصل إلى أعلى مستوى في الذهن فتشمله، وهو مستوى التفكير الذهني والاتصال بالآخرين، وهذه المنطقة الأخيرة هي المنطقة التي تهتم بها القصص السيكولوجية تقريبا.”
ووفقا لهذه الرؤية صنفت روايات جيمس جويس وفرجينيا وولف ووليم فوكنر على سبيل المثال؛ لتكون تعبيرا عن هذا التيار في الأدب الغربي، ووفقا لذلك أيضا يصنف بعض النقاد روايات أحلام مستغانمي في الأدب العربي.
وبفعل تأثيرات آراء فرويد التحليلية ظهرت الدادائية وهي بأبسط مفاهيمها “الخروج عن المنطق والمعقول”، ثم جاءت السريالية التي خرجت من جثة الدادائية “، والسريالية - وفق ما ينقله د. علي جواد الطاهر عن أندره بريتون - هي تلقائية نفسية نقية يقصد بها إلى التعبير، شفهيا أو تحريريا أو بأية طريقة أخرى عن سير العمل الحقيقي للفكر، في غياب كل ضابط يمارسه العقل، خارج كل احتياط فني أو أخلاقي”، ثم تحولت إلى المرحلة العقلانية بعد أن خمدت حماستها في اللاوعي.
ولا شك أن دور علم النفس في توجيه ذائقة التلقي يبقى فاعلا مهما اختلفت التيارات والنظريات الأدبية أو الفنية بصورة أشمل أو الفكرية؛ لأن كل المعطيات تشير إلى انفعالية النفس المتلقية بما تواجهه من مؤثرات تبعا لقوتها الجاذبة، ومن هنا باتت الماكنة الدعائية عاملا مهيمنا في السيطرة وتوجيه ذائقة التلقي نحو أهدافها التي تسعى إليها بمختلف أشكالها.
وإذا ما نظرنا بشيء من التجرد إلى منتجنا الإبداعي ( وهو ما يهمنا أو ما نسعى إلى حصر حديثنا فيه)، سنجد أن ثمة أسماء أو نماذج إبداعية أخذت اهتماما وسعة تلق أكثر مما تستحق، أو أكثر مما يجب في أقل تقدير، وربما بقيت بعض تلك الأسماء أو النتاجات محفوظة في ذاكرة أجيال عديدة؛ لكونها فرضت قسرا على ذائقة المتلقين من خلال المناهج التعليمية بمختلف المستويات، والتي غالبا ما تخضع لموجهات سياسية أو ذوقية، وقد تكون فنية في أحسن الأحوال، وهذه أيضا ربما تكون واقعة تحت تأثيرات الذائقة الجمعية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حديثنا عن تأثيرات الذائقة الجمعية ليس من باب الإدانة أو التشكيك بإيجابية حكمها الفني؛ وإنما لبيان وتأشير قوتها التأثيرية والتوجيهية في صناعة نجومية الأسماء أو النصوص.
ولعلنا لن نبتعد عن الحقيقة في تمثيلنا للقوة التأثيرية للذائقة الجمعية، إذا ما قلنا: إن أقرب وأوضح تعبير لها هو هذا الربط الشائع لأغاني فيروز بوقت الصباح حتى باتت تمثل أيقونة هذا الوقت بالذات دون غيره، وهو ترابط سيكولوجي أكثر مما هو حقيقي.
وإذا كانت تأثيرات فردانية التلقي باتت محاصرة من جوانب متعددة، فإن التلقي الجمعي هو الآخر واقع تحت تهديد سيل التكنلوجيا العارم، الذي بات يقود الذائقة إلى مناطق فوضوية، يمكن أن نصفها بأنها خارج سيطرة المعطيات الفنية والجمالية في أغلب الأحيان.
وتأسيسا على ذلك فإن الموجهات السيكولوجية تبقى هي المتحكم الأول في عملية التلقي، وينبغي الالتفات إلى ذلك ومحاولة توجيهه بالصورة التي تخدم العمل الإبداعي في عالمنا العربي، الذي يشهد إهمالا وعدم اهتمام سواء كان ذلك عن قصور في الرؤية أو في الوسائل اللوجستية التي يمكن أن يكون لها التأثير الإيجابي في صناعة موجهات الذائقة، وبطبيعة الحال فإن هذا الفعل يحتاج إلى تضافر جهود المؤسسات الثقافية بمختلف انتساباتها الحكومية والنقابية والتجارية.