براعة {الولد اللطيف} في سرد الحكايات

ثقافة 2023/06/21
...

جودت جالي



في كل الملاحق الأدبية والمجلات الأجنبية التي أتابعها ولخصت هنا ضمن المقال ما قرأته فيها عن رواية الممثل البارع توم هانكس (صنع تحفة سينمائية هامة أخرى)، لاحظت الإنطباع الجيد نسبيا الذي ولدته عند النقاد، وإذا كان هانكس لسنين طويلة يلقبه الذين من حوله بالسيد الولد اللطيف (أو المهذب) فقد استحق بكتاباته أن يلقبه النقاد أيضا بالولد الحكاء، مع ملاحظة كونه في الأصل ومنذ سنين قاصا ماهرا (ويمكن عد كتابة القصص تمرينا جيدا على إتقان فن السرد) فإننا بتجربة كبار الكُتّاب، وما إطلعنا عليه من كتاباتهم، نعرف أنه ليس مؤكدا أن القاص الجيد يمكن أن يكون روائيا جيدا أو بالعكس.
مع ذلك يظهر لنا جليا أن توم هانكس قد إستفاد من تجاربه في كتابة القصص ذات المسارات المتعددة المتداخلة، غير الخطية أو الخيطية Linear إذا صح التعبير، ليقيم بناءا روائيا ناجحا محكما.

لقد عبر جميع الذين كتبوا عن الرواية عن استحسانهم لإختياره موضوعا لروايته، وهي الأولى، من محيط مهنته ومن البيئة التي يعرفها جيدا ومن فترات يعرف تفاصيل الحياة فيها ويتذكرها جيدا، وحسن الإختيار للموضوع ومسرح الأحداث دليل ذكاء جدير بأن يتوفر لكل كاتب، وقد وصف بعضهم الرواية من هذه الناحية “ دليل السيد الولد اللطيف الى صنع فيلم”، كما لاحظوا جميعا بأنه لا يهتم هنا بهوليوود فحسب ولكن بالتاريخ العسكري وحياة القرية الصغيرة، وبشعرية الحياة اليومية، “بالإصغاء لشعر الكلام الأميركي اليومي”، شعرية الحياة اليومية التي عبرت أليف شافاك عن أهميتها لأي كاتب في مقال لها عن إسطنبول (أو الإسطنبولات العديدة في قديمها وجديدها، وواقعيها وسرياليها، وكئيبيها وعبثيها، وحقيقيها وخياليها، حسب تعبير الكاتبة) وكيف انعكست هذه الأسطنبولات في أعمال عدد من الكتاب، أتراك وغير أتراك، هي واحدة منهم (ملحق ذي نيويورك تايمز بوك ريفيو والمقال بعنوان (إقرأ طريقك في إسطنبول).

تتركز الأحداث في قصة رئيسة هي قصة جو شو بروفيسور الكتابة الإبداعية الذي يراسل مخرجا إسمه بيل جونسن يدعوه لجلسة يتحدث فيها عن صنع فيلمه الذي يتناول قصة مستبصرة جميلة لا تستطيع النوم هي (رين لين). فالرواية إذن هي ما يرويه لنا جو شو عن ذلك الإنتاج السينمائي، ونرى خلال السرد جونسن الكاتب والمخرج المعروف الذي يقول “أنا أصنع أفلاما لأن أي عمل آخر لا يرضي بحثي للإمساك بالحقيقة غير المحكية، حقيقة خالصة وغير مكتشفة”، يفكر في مشروع جديد ومجاميع عمل لكتاب مصور معفي من الرسوم وآمن من الرقابة، فيقع وهو التواق لأكبر قدر من حرية التعبير على نجمة مغمورة هي رين لين الممثلة الشابة “المتوهجة” ويحاول أن يلبسها مسؤولية ملكية حقوق سلسلة الخط الرئيس ولكنها تصبح في الأخير هي نجمة الفيلم القائم على الفكرة وعدوها الجديد، عدو دورها كسوبربطلة، منفصل عن كل الجذور الأميركية. ما أن يوقع جونسن العقد ويبدأ العمل حتى يعود الزمن بنا ثمانين عاما، الى كاليفورنيا ما بعد الحرب، مقدما لنا بوب فولز جندي بحرية وإبن أخيه روبي أندرسن فنان الرسوم الذي جعله بعد ذلك طوال عشرين عاما بطل قصص مصورة. تبدأ الرواية بمدخل جميل حين يقوم روبي أندرسن فتى القرية الصغيرة بأخذ عمه جندي البحرية بطل الحرب العائد من الجبهة على دراجته الى المدينة في جولة ثم يتركه ليسكر ويقوم بمراهنات جماعية. ندخل بهذا عالم الرواية المليء بحيوات متبادلة متداخلة، ولم يكن العيش بينها سهلا، فهي حيوات أناس يصنعون الأفلام، يضعون حلولا للمشاكل بدلا من الشكوى منها، شخصيات تتنقل بينها العبارات العامية المبتذلة للكلام الأميركي التي تولد في فترة تختفي بعدها لتولد غيرها.

يوجد إحساس عند القارئ في تغير مزاج هانكس مع الإنتقال الزمني من الأربعينيات الى السبعينيات والى التسعينيات وحتى جائحة كورونا، وإحساس بتفاصيل الحياة اليومية التي تحتفظ بها الذاكرة من قبيل أي نوع نصب الوالد في البيت من مبردات الهواء التي نزلت السوق في الخمسينيات ؟ وشيئا فشيئا نفتقد الحلاوة التي يبثها الحنين الى الماضي مع تقدم الرواية نحو الزمن الحالي، وتحل محل نسخ صور ألبوم الماضي نسخ خيالية من شركات العالم الواقعي الراهن بتفاصيلها الداخلية وتفرعاتها الهامشية، ليعود بنا هانكس الى سياق أقرب الى الثبات في خط سردي واحد ما أن يبدأ تصوير الفيلم، ويبدأ القارئ يشعر بشد الإنسجام السردي واتضاح قوى العلاقات المؤثرة بين الشخصيات الرئيسة، والمواجهات بموازاة تذبذب انتاج العمل السينمائي (وهي عمليا وفنيا عناصر الصراع الوحيدة في الرواية ولا وجود فيها لصراعات العداءات التقليدية).

يعود هانكس في الأقسام الأخيرة ليظهر لنا تمكنه من فن القص غير الخيطي بما فيه الإيجاز البارع لحياة شخصية بكاملها في حيز قليل، كحياة منتج ورث جينا ضعيفا ويموت من السرطان خلال صفحتين. يقول النقاد من الصعب، نظرا لطبيعة الموضوع طبعا، الإعتراض على العدد الكبير للشخصيات حيث يتوجب عليه أن يخصص مساحات وصف شخصيات معاوني المخرج جونسن والناس الذين يمكن أن تشكل خلفية كل واحد منهم رواية بحد ذاتها، وقد عد النقاد كثرة الشخصيات بما تحتمه من كثرة التفاصيل عامل إرباك في الرواية، وقد قال أحدهم (يعرف هانكس مادة موضوعه، ويعرف على الأقل مميزات الرواية الجيدة، ولكننا يجب أن ننتظر لنرى في المرة القادمة شرارة الخيمياء التي تصنع القصة تقدح في الصفحة).