سالم عبد الكريم: الموهبة أمانة يودعها الخالق عند الإنسان

ثقافة 2023/06/21
...

 بغداد: سامر المشعل 

كنت محظوظا بإجراء حوار صحفي مع الموسيقار العراقي والعالمي سالم عبدالكريم، أثناء زيارته إلى العراق بعد غياب لربع قرن، أنجز خلالها ابداعات موسيقية وفكرية نفخر بها كعراقيين، والتي سجلت حضورها الابداعي في دول الخليج ومصر وتركيا وماليزيا ولندن وباريس والمغرب.. والتي لا يمكن حصرها في لقاء صحفي واحد، سواء الاعمال التي قدمها بالعراق أو تلك التي استكملها بالخارج.. ولعل آخرها تأليفه سيمفونية لدولة قطر، قدمت ضمن الفعاليات الثقافية لبطولة كأس العالم التي أقيمت بالدوحة. نحن بصدد شخصية استثنائية بكل ما تحمل هذه المفردة من معنى، فهو لا يشبه احداً، الا نفسه، ولم يقتف أثر أحد، الموسيقار سالم عبد الكريم كان ضيف صفحة موسيقى، وسنكشف معه بعض المحطات المضيئة من تجربته الموسيقية، وسنضيء بعض الزوايا من تجربته الحياتية، ونتعرف معكم على بعض طروحاته وأفكاره وانجازاته في التأليف والموسيقى.

لم تكن بداية سالم عبد الكريم سهلة لدخول عالم الموسيقى، إنما كانت معقدة ومحفوفة بالمعاناة، فقد ولد وسط عائلة دينية متشددة ممنوع عليه سماع الموسيقى، ولا يجرؤ احد من افراد العائلة الخروج من ربقة تقاليد العائلة، وعن مشوار البداية تحدث عبد الكريم لـ"الصباح" قائلا:" لدي نظرية ربما تبدو غريبة، هي إن الموسيقي الحقيقي يولد للدنيا وهو موسيقي، هناك أشياء من الله سبحانه وتعالى، وهناك أشياء مكتسبة مثل السعي والاجتهاد والتطور والتثقيف..".

واضاف " أتيت في عائلة دينية، كان جدي هو المسيطر على أفراد العائلة الكبيرة، يوجد لدينا راديو، لكن مسموح لنا سماع الاخبار فقط، غير مسموح لنا سماع الموسيقى نهائيا، بل حتى الفاصل الموسيقي الذي يسبق نشرة الاخبار لا يجوز لنا سماعه، فلم انشأ في بيت منفتح على الموسيقى أو لهم حرية الاختيار ".

ولد عبد الكريم في منطقة راغبة خاتون في بغداد من عائلة محافظة، واول موسيقى سحرته هي الانغام السماوية وقت الفجر، وعن تلك الذكريات تهب مخيلته وهو يتحدث ببراءة طفل ينام فوق سطح منزله، ويذكر "كنا ننام على سطوح المنازل وكان يشدني وقت الفجر الأذان، الذي كان يأتيني من أكثر من جهة من الجوامع والحسينيات القريبة من بيتنا، وكانت تشدني القراءات الحسينية أيام محرم، كذلك أصوات الباعة الجوالة وفلكلور الاطفال بالأعياد.. فأذني أول ما استقبلت الانغام، التي ارتبطت بقدسية النغم وهي التلاوة القرآنية والأذان، ومن خلالها تعرفت على الموسيقى كنغم وليس أغاني، والأخيرة جاءت بمرحلة 

أخرى".

ويستدرك "كان صوت والدتي جميلا، وعندما تهدهد أخي الصغير بـدلليلول كنت اذهب بعالم آخر".. تومض ذكريات الطفولة في رأس الموسيقار سالم فيقول "كان عمي يجلب كتيبات فيها أغاني محمد عبد الوهاب وبعض المطربين، ومن دون أن أسمع الاغاني الاصلية أقوم بتلحين كلمات الاغاني، كنت أجمع يومياتي واشتري مجلة "ميكي وسمير"، لكن تواجهني مشكلة كيف ادخلها إلى البيت وأقرأها؟، فغير مسموح لنا قراءة إلا الكتب المدرسية، فأخفي المجلة تحت "المخدة" وعند الضياء الأول للفجر استيقظ لقراءتها من دون أن يعلم بي أحد، وكأنني أمارس عملا 

محرما".


شخصيَّة خجولة

يعترف عبد الكريم بأنه شخصية خجولة، ويقول احيانا المعلم يسأل، أعرف الاجابة، لكني أستحي أن اقف واجيب. ويعلق، ربما بسبب تربيتي التي كثرت فيها الممنوعات.

في الطريق إلى المدرسة كان هناك مقهى شعبي يبث أغاني الصباح من خلال الراديو، كان يسمع الأغاني فينسى نفسه ويذهل عمن حوله، ثم يفز على جرس المدرسة، فيركض مسرعا، كي لا يفوته الدوام. ويذكر عبد الكريم أن أحب الاغاني الصباحية لديه هي "غنوا غنوا يا أطيار"، واغنية " يانحلة على شفاف الورد جوري" للفنان رضا علي. ويضيف كانت مصادري للتعلم بالقطارة.

كانت القراءة أهم مصدر معرفي، مثلما يذكر عبد الكريم، فمنذ مرحلة الابتدائية كان يشتري جريدة الاهرام ويواظب على قراءة عمود "بصراحة" لمحمد حسنين هيكل، وكذلك يبحث عن أية معلومة عن محمد عبد الوهاب أو فريد الأطرش وغيرهم.


اختراق الحواجز

أول خرق لتقاليد العائلة وحواجز الممنوعات، عندما ذهب سالم عبد الكريم برفقة صديقه إلى سينما السندباد، وكان بالقرب منها معهد لتعليم الموسيقى، شجعه صديقه إلى دخول المكان، كان المسؤول عن المعهد جمال ياملكي، الذي سأله ماذا تتعلم؟ أجاب: أتعلم عود.

كانت أجور المعهد ثلاثة دنانير بالشهر، وهذا مبلغ كبير آنذاك.

لاحظت والدته أن ابنها سالم حزين ومهموم، قالت له ما بك؟ قال "أريد أتعلم موسيقى"، ردت عليه "أنت مخبل"!، قال لها مخبل، عاقل، أريد أتعلم وأخبرها بالقصة.. ثم أخذ يمتنع عن الطعام، رقت الأم على ابنها، وقررت أن تجازف بمغامرة كبيرة من أجله، اذ قامت برهن أساويرها، وأعطت الثلاثة دنانير إلى سالم، وهمست له محذرة "اذا عرف والدك بذلك سوف يطردني من البيت".

كانت سعادة عبد الكريم كبيرة، وهو يمسك العود لأول مرة ويتعلم على يد الاستاذ جمال ياملكي، الذي لمس فيه قابلية جيدة للتعلم وقال له يجب أن يكون عندك عود.

بعد انقضاء الشهر عادت الكآبة من جديد إلى سالم.

يقول عبد الكريم من حسن حظي أن الاستاذ علي الإمام كان جارنا، ذهبت والدتي إليه، وطلبت منه أن يعلمني، ووافق أن يعلمني، بقيت أتعلم عنده لمدة ثلاثة اشهر. 


الرياضيات والموسيقى

حصل عبد الكريم على معدل عالٍ يسمح له بدخول الكلية التي يريدها، والده كان يريده أن يدرس الهندسة، راح إلى الهندسة رغما عنه: ارضاءً لرغبة والده، يقول "كنت اتحايل كي أرسّب نفسي بالفحص، واذهب إلى كلية الفنون الجميلة، لكني اكتشفت أن قسم الموسيقى غير موجود في كلية الفنون، ثم استقر بي الحال أن ادرس الرياضيات كلية العلوم.

ويستطرد بالحديث في هذه الاثناء شاهدت خبرا وأنا جالس بالبيت أن معهد الدراسات النغمية، يعلن فتح باب التقديم.. كان يومي يبدأ من الساعة السادسة صباحا وينتهي بالساعة العاشرة ليلا، أكمل دوامي بكلية العلوم في الساعة الخامسة عصرا، اذهب مباشرة إلى معهد الدراسات الموسيقية، الذي ينتهي فيه الدوام عند الساعة التاسعة ليلا.. عندما أصل إلى البيت تكون الساعة قد قاربت العاشرة.. ولا بد من تحضير واجبات الرياضيات والموسيقى معا. هذا جهد غير طبيعي.

ويعلق على تلك الفترة من حياته " لم تأتِ لي الأشياء بطبق من فضة، انما بتعب ومعاناة، لكنها علمتني الاعتماد على نفسي".. ويضيف كنت أتردد على المركز الثقافي البريطاني أقرأ المراجع الموسيقية باللغة الانكليزية، لغتي الانكليزية جيدة، فكنت أقرأ باسبوع واحد، معلومات تدرس لنا في عامين بالمعهد، إضافة إلى سماعي لكبار الموسيقيين العالميين، مثل بتهوفن وجايكوفسكي.. وآخرين.

وعن انعكاس علم الرياضيات على الموسيقى فيبين (الموسيقى هي رياضيات بمشاعر، والرياضيات هي موسيقى من دون مشاعر، فيثاغورس يقول "أستطيع ان أفسر الكون برقم ونغم "، الرياضيات علمتني الدقة في كتاباتي ومؤلفاتي، والجانب الأهم المنطق، كل "بار " وحدة موسيقية صغيرة، أستطيع ان افسر لماذا كتبته، كل شيء عندي يخضع للمنطق، هذا ما تعلمته من الرياضيات).


الأصالة والمعاصرة

قلت للموسيقار سالم عبد الكريم أن تقدم موسيقى عالمية عند أهل الموسيقى مثل المانيا وفرنسا.. هذا فيه تحدٍ كبير؟.

قال.. مثل هذا السؤال سألني مدير القسم الثقافي في ديل شبيغل الالمانية وقال لي "أليست جرأة منك أن تأتي في بلد موزارت وباخ وبتهوفن وتقدم سيمفونية؟". 

قلت له أنا بالي في مكان آخر. قال أين بالك؟ قلت له سوف أشفق على الجمهور الألماني غدا من شدة التصفيق، استغرب كثيرا من ردي!.

قلت له: اذا لم يصفقوا لي، سوف اعتذر منك أمام الجمهور، واقول لك أنا العربي الذي يركب الجمل تجرأت واعترف بالخطأ، لكن هل لك الجرأة أن تعترف إن شاهدت ما أقوله؟ قال نعم.

ربما تقول لي: أنت تعلم الغيب؟ اقول لك هي معادلة سهلة، لكنها عميقة جدا أن تجمع الأصالة مع المعاصرة، من دون تتفوق إحداهما على الأخرى. ويوضح عبد الكريم، في كل اعمالي تجد البيئة العراقية والعربية والاسلامية مع أعلى مستوى تقني عالمي، أحد المؤرخين الاتراك وهو مراد بردقجي كتب مقالة بعدما حضر العرض الاول للسيمفونية، التي ألفتها في قطر وقال " من العام 1820 كل المؤلفين الموسيقيين من العرب والاتراك، الذين تأثروا بالموسيقى الاوربية أرادو أن يجدوا معادلة بين المحافظة على الروح الشرقية والتكنيك بالموسيقى العالمية، فشلوا باستثناء شخص واحد هو سالم عبد الكريم".


الموسيقى العسكرية

اتيحت لسالم عبد الكريم فرصة الاطلاع على الالات الهوائية أثناء خدمته في مدرسة الموسيقى العسكرية وعن ذلك يقول " موسيقى الجيش هي عاصمة الآلات الهوائية، وقلت في نفسي هذه فرصة لدراستها، على الرغم من أن مدير الصنف العميد عبد السلام داود لم يطالبني بالدوام، إنسان محترم وراق ويتعامل مع الفنانين بشكل حضاري، سألت كيف تدرسون هذه 

الالات ؟ 

قيل ان هناك كتابا بريطانيا هو مرجع لكل ضباط الأجواق. بعد ذلك اقترحت على مدير الصنف أن أترجم هذا الكتاب إلى العربية، قال "أنت بطران هذا كتاب ضخم، فلماذا تريد أن تتعب نفسك" ؟ قلت له أنا أريد أن أتعب نفسي. اعتكفت لمدة ثلاث أشهر من الصباح إلى المساء في مخزن مهمل وضيق تسرح فيه الفئران، ولم تكن فيه، حتى طاولة أكتب عليها، فكان هناك بيانو قديم استخدمه لهذا الغرض. بعد ذلك أصبحت مرجعا معرفيا لكل ضباط الأجواق، كل واحد لديه مسألة يأتيني يستفهم عنها، وأتحدى الآن أي شخص لديه خبرة بالآلات الهوائية مثلي.

ومن المحطات المضيئة في مشوار الموسيقار سالم عبد الكريم تكريمه في مهرجان الموسيقى العربية بالقاهرة، وعن هذه المحطة كشف أن الفنانة ايناس عبد الدايم عازفة الفلوت رئيس دار الاوبرا، دعتني لغرض تكريمي بالمهرجان ورغم اعتذاري، إلا أنها أصرت واقنعتني بالتواجد بمهرجان الموسيقى العربية، ولا أخفيك كنت مسرورا بهذا التكريم والحفاوة بالقاهرة وأمام آلاف 

الحضور. 

واردف قائلا: في رأيي إن أكبر تكريم هو أن الله يختار شخصا ما ويودع فيه موهبة معينة، ولا أكترث كثيرا بحفلات التكريم. 

ومن الإنجازات التي يعتز بها عبد الكريم قيادته لأكبر أوركسترا في أهم وأكبر قاعة في لندن هي قاعة "رويال البرت هول"، أمام خمسة آلاف من الجمهور، وهذه القاعة لا تفتح الا لكبار الموسيقيين بالعالم.


كاظم الساهر

كان لعبد الكريم تعاون مع أحد طلابه، وهو الفنان كاظم الساهر، وعن هذا التعاون كشف عن أنه عمل له ألبوما كاملا مكونا من أثنتي عشرة أغنية، لم ترَ النور الا أغنية واحدة هي "كان صديقي"، التي حملت عنوان الألبوم، ويقول "لو تسمع الأعمال الأخرى تستغرب من أن هذه الأعمال لم تسمع حتى الآن".

هناك الكثير الانجازات الثقافية التي كان لعبد الكريم قصب السبق فيها، ومنها أنه أول من عمل بمبدأ الكونسيرت، حيث يحضر الجمهور ويشتري تذاكر ويسمع موسيقى ضمن منهاج معد بعناية.

ومن الجدير بالذكر أن الموسيقار سالم عبد الكريم ألف أربعين "سماعي"، وهو من أهم القوالب في الموسيقى الشرقية، وهذا الرقم لم يستطع أن يصل إلى ربعه أي موسيقي بالعالم.


خارج العراق

شغل سالم عبد الكريم سابقا منصب مدير معهد الدراسات الموسيقية، وهو أصغر موسيقي يكلف بهكذا منصب رفيع وكان عمره 24 سنة، وبعد خروجه من العراق العام 1998 قدم الكثير من الاعمال المهمة، التي لا يتسع المجال لذكرها، والتي تؤكد خصوبة عطائه الموسيقي والفكري.. وعن هذه الفترة تحدث عبد الكريم "الأعمال التي قدمتها هي استكمال لما بدأت به بالعراق، قدمت عدة كونسيرتات في فرنسا والمانيا والمغرب وماليزيا ودبي والبحرين.. كنت رئيس اللجنة الوطنية والمراجع العلمي، لوضع المناهج في دولة الامارات العربية، جمعت التراث العماني، قدمت عشرات الكونشيرتات والسيمفونيات. قدمت سيمفونية قطر في كأس العالم. عملت نظاما عالميا للعود، يمكن أن يدرس في أي بلد 

بالعالم. 

مثل ما موجود لآلة البيانو. قدمت 55 عملا للأطفال باللغة العربية الفصحى. قدمت مشروعا لدعم اللغة العربية، مكونا من أعمال عدة، ويشمل جميع المراحل الدراسية، بدءًا من رياض الاطفال لما بعد التعليم الجامعي.. ويذكر أنه أنشأ أكبر أكاديمية لتعليم العود بالعالم على الانترنت.. ويبقى الموسيقار سالم عبد الكريم صفحة مشرقة بالابداع العراقي والعالمي، نعتز بالحوار معه، وربما ستكون لنا معه وقفات أخرى بمشاريع إبداعية 

لاحقة.